عمار على حسن يكتب | عملية بناء الإنسان
«بناء المصانع يسير أما بناء الرجال عسير».. هذه الحكمة العميقة تبين أن بناء الإنسان، الجامع بين الروح والمادة، تختلف فى صعوبتها عن بناء أى شىء آخر، فأهم ما يميز عملية بناء الإنسان، عن أى عملية أخرى، أننا هنا نتعامل مع الشخصية الإنسانية ذات التركيب النفسى المعقد صعبة الفهم والتحليل، لذا فهناك عدة خصائص تتسم بها هذه العملية وهى الصعوبة والبطء والتراكمية والتدرج إلى جانب تعدد الأوجه والاحتياج الدائم إلى الرعاية والتلقين.
ومصدر صعوبة هذه العملية هو الإنسان نفسه، فالناس كلهم ناس من ناحية قاعدة التكوين: رأس وجذع وأطراف.. تركيب متشابه فى الشكل والمادة إلى حد كبير، ولكن من السمات والثبات والطباع والاستعدادات بينهم فوارق شاسعة، تبلغ أحياناً أبعد مما بين السماء والأرض.
فما يروق لأحدهم لا يستسيغه الآخر، وما يتبناه الفرد الآن قد يهجره ويستهجنه مستقبلاً؛ لذا فهناك ضرورة لوضع منطلقات متفق عليها ومعتقد فيها للبناء، الأمر الذى يوجب أن نجند له جهداً كبيراً وشاقاً.
ورغم أن هذه الأسس يضع لها الإسلام الثوابت لبناء القلب (العقيدة)، والعقل والجسم، فإنها تحتاج كذلك إلى الشرح والتحليل وهذا أمر ليس بالهين على الإطلاق، وبناء الإنسان عملية متعددة الأوجه، لأنها تعنى الارتقاء بالفرد من حيث هو وحدة متكاملة من الصفات والمميزات الجسمية والعقلية والاجتماعية والمزاجية التى تبدو فى تعامله وعلاقاته فى المواقف المختلفة فى مجتمعه، وهى تشمل دراسة شخصية الإنسان من حيث دوافعه وعواطفه وميوله واتجاهاته وسماته الخلقية، واهتماماته وآرائه ومعتقداته وعاداته وقدراته ومواهبه الخاصة ومعلوماته، وما يتخذ من أهداف ومثل وقيم اجتماعية وفلسفة فى الحياة.
وجراء صعوبة عملية بناء الإنسان، وتعدد أوجهها، يأتى بطؤها؛ إذ إنها عملية تسير فى تمهل وأناة تطرأ لظروف الإنسان السابق ذكرها، ومن أجل الحصول على أقصى حد ممكن من الصلاح له، والذى يتطلب التريث والإتقان، وهى عملية تحتاج إلى رعاية دائمة ومستمرة، فكون الإنسان متقلباً، يصبح مؤمناً، كما يقول النص الدينى، أو متأرجحاً بين اليقين والشك كما بيّن التراث الفلسفى وأطروحات علم النفس، أو كونه دائم النسيان ذا ذاكرة تخون، فإن بناءه يجب أن يكون مستمراً ودءوباً حتى يتسنى الاحتفاظ بنقاء الشخصية الإنسانية وقوتها، كما أن عملية بناء الإنسان عملية تدريجية «تواكب مراحل النمو المختلفة للإنسان فتبدأ منذ أن يكون جنيناً فى بطن أمه وحتى أرذل العمر، وتدريجيتها كمية وكيفية معا. فحجم المعلومات ووسائل التربية ونوعها يسيران فى اتجاه تصاعدى. فما يلزم للطفل أقل فى كمه وقد يكون فى كيفه مما يلزم للشاب.. وهكذا علاوة على ذلك فهى عملية تراكمية يختزن الإنسان «مادة بنائه» مترتبة ومتسلسلة حتى يصل إلى الغاية المرجوة التى تتمثل فى اكتمال نضجه الإنسانى. وتبقى الحقيقة التى لا يختلف عليها اثنان وهى أن الإنسان أعلى الكائنات تعرضاً للفحص والدرس من قبل العلوم، وأن كل المعطيات المستلهمة من دراسته تؤكد على أن عملية بنائه هى أكثر العمليات صعوبة ومشقة؛ لذا فإن تربية البشر وتكوينهم اعتماداً على قدرات الذات الإنسانية فقط تجعل الأمر أكثر تعقداً وغموضاً، فالجنس البشرى بذل مجهوداً خارقاً لكى يعرف نفسه، ولكن رغم أنه يمتلك كماً هائلاً من الملاحظات التى كدسها العلماء والفلاسفة والأدباء والروحانيون فى جميع الأزمان حول الإنسان وأسلوب بنائه فإنه لا تزال هناك مساحات غامضة فى النفس البشرية، وعلى حد قول ألكسيس كاريل فى كتابه «الإنسان ذلك المجهول» فإن الناس لم يعرفوا بعد كل ما يتعلق بحقيقتهم، إذ إن كل واحد منا مكون من موكب من الأشباح نسير فى وسطها حقيقة مجهولة.
ومما يزيد الأمر صعوبة هو أن البناء النفسى والعقلى للإنسان، رغم إمكانية إدراكه نظرياً، فإنه لا يمكن ملاحظته بشكل مباشر رغم الجهود المبذولة فى سبيل معرفته، عن طريق الاستدلال من ظروفه وسلوكه. فالإنسان ليس كائناً سلبياً مثل الحيوان الذى يتأثر فقط ولا يؤثر، فالإنسان يغير ويتغير ويؤثر ويفعل، لذا فهناك صعوبة بالغة تكثف محاولات إخضاعه للفحص والدرس والسعى لتشكيله وفقا لأسلوب معين خاصة فى سن متأخرة.