.. كنت يومها جاداً بل متجهماً فى الحديث مع شباب تمرد الحاضرين، محمود بدر وحسن شاهين ومحمد عبدالعزيز، لأحذرهم من الوقوع فى الفخ الذى سقط فيه «ائتلاف شباب الثورة»، الذى تكوّن خلال الموجة الأولى لثورة يناير، فقد تصرفوا منذ اللحظة الأولى وكأنهم قادة لهذه الثورة، مع أن كل واحد فيهم يدرك جيداً أنه مجرد واحد من الطليعة الثورية التى كانت تضم الآلاف، ومن شعب الثورة الذى ضم نحو 18 مليون إنسان. وهذا التصرف أظهرهم فى مظهر الجاحدين المتنكرين لمن سبقوهم فى الكفاح ضد نظام مبارك، وبان عليهم التعالى فى التعامل مع عموم الناس، وقد تلقيت، بصفة شخصية، تعليقات سلبية لا حصر لها من أناس أقابلهم فى أماكن عامة على سلوكيات هؤلاء الشباب، وكيف أدت إلى بناء جدار نفسى عازل بينهم وبين الجمهور. كما حذرت شباب «تمرد» من الوقوع فى «غواية الإعلام» الذى كان يلهث خلفهم ليلبوا احتياجاً له فى هذا الوقت، وهو أمر أدى إلى خسارة هؤلاء الشباب للكثير من رصيدهم.
وقلت يومها أيضاً إن عظمة «تمرد» وتفردها هو أن كل فرد من الشعب وقّع استمارة يعتبر نفسه مؤسسها أو على الأقل شخصاً بارزاً فيها، ويشعر بالمسئولية تجاه رعايتها، وضربت مثلين، للحلاق الذى أذهب إليه كل مدة ليقص لى شعر رأسى، وكيف أبلغنى أنه حين وقعت فى يده استمارة لتمرد قام بتصوير مائة نسخة منها، ويعرض الاستمارات على زبائنه، وقد ملأ المائة وصوّر مثلها، ويواصل جمع التوقيعات. والثانى هو موظف بالمعاش قابلنى على مقهى فى حى المنيل، وأخبرنى أن معه مئات الاستمارات جمعها من مرتادى المقهى، ويحتفظ بها عند النادل. وكان هناك من يتصل بى ويسألنى: معى آلاف الاستمارات، فلمن أسلمها؟
وواصلت: «تمرد» تبدو «أسطورة شعبية» وأى لعب أو تلاعب فى هذا المعنى سيفقدها بريقها، ولذا لا أحبذ أن تبدو الحركة وكأن لها قيادات يضعون أنفسهم فوق سائر الناس.
والحقيقة أن الحاضرين من شباب تمرد، تفهّموا هذا الكلام، وإن بدا قاسياً فى بعض الأحيان، واعتبروه نصيحة مخلصة، ولم أكن وقتها منشغلاً بغضبهم منى أو رضائهم عنى، إنما كان الهدف أن أقول لهم ما قد يتجنب آخرون قوله، أو يهمسون به فى الغرف المغلقة، ويتفادون الجهر به حتى لا يغضب الشباب، وهى آفة أصابت الحركة السياسية عقب ثورة يناير، حيث أخذ البعض ينافق البارزين فى الحركات الشبابية الثورية، لمآرب شتى، مما أدى إلى استعلاء البعض منهم، أو تضخمه بلا أى داع.
أما فيما يتعلق بالجيش، فقد كان من بيننا الذين اعتقدوا أو تمنوا ألا يتدخل الجيش، وألا يكون له دور، لكن هذا الصوت بدا خافتاً أمام من اعتقدوا أن العكس هو الصحيح. وفى ذلك الوقت كانت هناك هواجس حيال موقف السيسى، الذى أشاعت جماعة الإخوان فى عموم مصر أنه إخوانى متخفٍّ أو على الأقل متعاطف مع الجماعة، وكان بعض الناس فى الشارع يستوقفوننى أحياناً ليسألونى عن هذا الأمر.
فيما يخص رأيى قلت: الإخوان جماعة منظمة، وقد أصبح لها ظهير من الجماعات المتطرفة المسلحة، وقد ألهبت حماس الإرهابيين المتقاعدين فعادوا إلى هواية القتل من جديد، ولهذا فإن شعباً أعزل مسالماً، إن خرج بالملايين لإسقاط حكم الإخوان، فلا بد أن يطلب تدخل الجيش، والأخير لن يتردد فى تلبية النداء، كما فعل أيام ثورة يناير التى كان أحد أبرز شعاراتها «الجيش والشعب إيد واحدة». وسألت المعترضين: ماذا سنفعل إن هتفت الملايين فى الشارع مطالبة بتدخل الجيش؟ وكان رأى الكل: بالقطع لن يستطيع أحد أن يمنع الناس. ووقتها قلت: بصراحة شديدة، من فينا يزعم أن الناس ستنتظر أوامره لتقبل أو تحجم عن طلب الجيش من عدمه؟ وكانت الإجابة: لا أحد. فقلت: إذا لنترك الناس لخياراتهم، وعليهم أن يتحملوا مسئوليتها، وعلينا أن نوعيهم، ونترك لهم حرية التصرف.
كان البعض من الحاضرين متذبذباً حيال هذه المسألة، لكن ما تم الاتفاق عليه تماماً هو تولى رئيس المحكمة الدستورية العليا منصب الرئاسة إن سقط مرسى، وهو ما كان. وعلى التوازى اتخذت «جبهة الإنقاذ» الموقف نفسه، وأصدرت بياناً بهذا، وفعلت «تمرد» الأمر نفسه، حين عقدت مؤتمراً صحفياً بنقابة الصحفيين قبل ثورة يونيو بأيام، وقررت فيه أن هذا القاضى الكبير سيصبح رئيساً إن رفض مرسى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، حسبما طالب أكثر من 22 مليون مصرية ومصرى.
كان هذا معلناً من كافة الجهات، وسمعه المصريون جميعاً، بعد أن بثته عشرات الشاشات على مدار أيام، ولذا فإن من نزلوا إلى الشوارع هاتفين «يسقط يسقط حكم المرشد» كانوا يفهمون فى هذه اللحظة أن الرئيس المقبل مؤقتاً هو رئيس المحكمة الدستورية العليا، ولم يكن أحد، على ما يبدو، يعرف اسم هذا الرجل، إلا أهل الاختصاص.