عمرو الشوبكى يكتب | 11 سبتمبر.. التاريخ الفاصل
فى يوم الثلاثاء 11 سبتمبر 2001 وقع أكبر اعتداءات إرهابية تشهدها الولايات المتحدة الأمريكية فى تاريخها المعاصر، حين تم تحويل أربع طائرات مدنية عن مسارها لتصطدم بأهداف محددة، تمثلت فى برجى مركز التجارة الدولية بمنهاتن ومقر وزارة الدفاع الأمريكية، وسقط نتيجة هذه الأحداث 2973 ضحية و24 مفقوداً، إضافة لآلاف الجرحى والمصابين بأمراض جرّاء استنشاق دخان الحرائق والأبخرة السامة.
حسب الرواية الرسمية للحكومة الأمريكية، فقد نفذ 19 شخصا على صلة بتنظيم القاعدة هذه الهجمات باستعمال طائرات مدنية مختطفة، ومنذ ذلك التاريخ عرفت السياسة الأمريكية تحولات هائلة فى استراتيجيتها الكونية، لا يزال العالم، وبخاصة العربى والإسلامى منه يدفع ثمنها حتى الآن، وتجلت فيما عرف بالحرب الأمريكية على الإرهاب (التى كانت أحد أسباب انتشاره)، وأدت إلى الحرب على أفغانستان، وسقوط نظام حكم طالبان المتحالف مع القاعدة، ثم غزو العراق، وإسقاط نظام صدام حسين أيضا.
ولعل التحول التاريخى أو النقطة الفاصلة تمثلت فى ذلك التحول من الاستعمار التقليدى الذى جاء لينهب الثروات، ويبسط النفوذ، كما فعل الاستعمار البريطانى وغيره، إلى تدخل عسكرى مباشر ادعى أنه جاء بغرض جلب الديمقراطية والقضاء على الإرهاب.
فلم تكن من ضمن خطط الولايات المتحدة البقاء الأبدى فى العراق، كما فعل المستعمرون القدامى. صحيح قد تكون ثرواته وثروات دول الخليج سببا وراء التعجل بالغزو الأمريكى، لأنه وجد من ينفق عليه، إلا أن الهدف الرئيسى كان استبدال نظمٍ «محمولة جوا» تحمل الديمقراطية والتقدم، وتقضى على البيئة الاستبدادية التى أفرزته بالنظم العربية والإسلامية المستبدة التى مثلت تربة صالحة للإرهاب.
والمؤكد أن الفشل الأمريكى كان مدويًا ومزدوجا، فمن ناحية، قد فشل فى محاربة الإرهاب، وتحول العراق لحقل تجارب لأفكار اليمين الأمريكى المحافظ الذى أشعل حربه الأولى على الإرهاب فى أفغانستان، وتحول من مشروع لمحاربة الإرهاب إلى مصدر لانتشاره فى دول الخليج العربى والعراق، ثم تحول ثانيا نموذجه الديمقراطى الذى رغب فى بنائه فى العراق إلى كابوس حقيقى ونموذج فاشل لتجارب التغيير فى العالم كله، دفع فيه العراقيون مليون شهيد من أجل بناء دولة مأزومة وشبه فاشلة.
وإذا سلمنا فعلا بأن الولايات المتحدة قد نصبت فخا للنظام العراقى لكى يحتل الكويت، وبالتالى سهلت من مبررات ضربه فى عامى 1991 و2003، فإن مسؤولية النظام العراقى فى ابتلاع هذا «الطعم» وسقوطه فى الفخ الكويتى هائلة، ولا يمكن إنكارها.
ولعل جانبًا من أزمة القراءة العربية للسياسة الأمريكية أنها لا ترى أن هناك هامشا عربيا للمناورة والفكاك من القدر الأمريكى، وهى تحكم علينا بالفشل الدائم، سواء أخطأنا أم أصبنا، وسواء بنينا أنظمة ديمقراطية ذات كفاءة اقتصادية وسياسية أم ديكتاتوريات معدومة الكفاءة، فإن النتيجة واحدة، هى هزيمتنا أمام الولايات المتحدة وإسرائيل وفق نظرية المؤامرة.
والحقيقة أن نوازع الهيمنة الأمريكية لا تحتاج إلى برهان، وعدوانية إدارة بوش السابقة لا تحتاج بدورها لتأكيد، ولكن من المؤكد أن هناك مساحات واسعة تحدد معايير الفشل أو النجاح والنصر والهزيمة تتحملها كفاءة نظمنا السياسية العربية وطريقة إدارتها لعلاقاتها الخارجية، ولذا سنجد أن فى الحالة العراقية كان يمكن بلا شك فرض واقع جديد على الإدارة الأمريكية فى حال إذا أقدم النظام العراقى طوال الفترة التى أعقبت هزيمته، بعد حرب تحرير الكويت عام 1991 على مراجعات وتغييرات داخلية عميقة، من بينها استقالة صدام حسين نفسه، وليس خروجه ملوحا بسلاحه، معلنا انتصاره فى «أم المعارك»، وليس اعترافه بالهزيمة وتحمله تبعاتها.
والمؤكد أن الفشل المدوى للنموذج الأمريكى فى بناء نموذج سياسى ناجح وملهم لباقى الدول العربية فى العراق صاحبه فشل وارتباك آخر فيما يتعلق بالحرب الأمريكية على الإرهاب الذى تحولت إلى أحد مصادره، فقد تحولت استراتيجيات جماعات العنف الإرهابية عقب مجىء قوات الاحتلال الأمريكى للمنطقة إلى هذا العدو البعيد الذى أصبح قريبا باحتلال العراق، وشهدت بلاد عربية كانت بمنأى عن نشاط هذه الجماعات، كالسعودية وغيرها من دول الخليج ومصر، عمليات إرهابية جديدة مختلفة فى الشكل والأهداف عن العمليات السابقة.
والمؤكد أن التعامل مع الموجة الثانية من الإرهاب جاء بعد عولمة الولايات المتحدة لحربها على الإرهاب، وأدى إلى تصاعد الإرهاب فى العالم كله، وفتح باب النقاش مرة أخرى حول دوافعه وأسبابه، وحول نجاعة الحل الأمنى كحل وحيد لمكافحة الإرهاب.
والحقيقة أن إدانة الإرهاب بكل صوره وأشكاله، سواء كان يستهدف عربا أو أوروبيين، وسواء كان يستهدف مسلمين أو مسيحيين أو يهودا، مسألة واجبة أخلاقيا وسياسيا، ولكن مناقشة دوافعه مسألة أخرى، خصوصا أن البحث فى أسباب الإرهاب ظل مسيطراً على مراكز صنع القرار الأمريكية فى أعقاب 11 سبتمبر، واختزلتها فى النهاية فى بُعد واحد هو الاستبداد الداخلى وأحيانا الثقافة الإسلامية.
وبدا التباين بين الأنظمة العربية والولايات المتحدة فى أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر الإرهابية مثيراً وذا دلالة، فقد اعتبرت الولايات المتحدة أن الاستبداد وغياب الديمقراطية فى المنطقة سبب الإرهاب، واعتبرت الأنظمة العربية أن سياسات الولايات المتحدة وعدم حل القضية الفلسطينية سبب انتشاره وتصاعده.
وبدا الأمر مدهشا حين أقر الجانبان بأن هناك دوافع سياسية وراء الإرهاب، ولكنها تلك التى يتحمل مسؤوليتها فقط الطرف الآخر، فالدوافع السياسية للإرهاب بالنسبة للجانب العربى هى ما يتعلق فقط بالانحياز الأمريكى المطلق لإسرائيل وعدم حل القضية الفلسطينية واحتلال العراق، أما بالنسبة للجانب الأمريكى، فهى فقط الاستبداد المحلى وغياب الديمقراطية.
والحقيقة أن البعدين مسؤولان عن تصاعد الإرهاب فى العقود الأربعة الأخيرة، إضافة للبنية العقائدية المنحرفة لهذه الجماعات التى تُركت تنمو، وتترعرع، دون أى مواجهة فكرية أو سياسية تذكر، خاصة إذا وجدت بيئة اجتماعية وسياسية حاضنة لها كما جرى فى بعض المناطق السنية فى العراق، حين غضت الطرف عن داعش نتيجة اضطهاد النظام الطائفى للسنة فى العراق.
والحقيقة أنّ الاعتراف بأن هناك دوافع سياسية وراء الإرهاب لا يعنى بأى حال تبريره، فهكذا تعاملت الحكومات الأوروبية مع الإرهاب اليسارى فى الستينيات والسبعينيات، حين عملت على حصاره سياسيا بدمج القوى اليسارية والشيوعية السلمية، رغم رفضها فى البداية للديمقراطية الليبرالية، داخل النظام الديمقراطى، ثم أجرت إصلاحات اقتصادية على النظام الرأسمالى، وقدمت تنازلات للطبقة العاملة وللطبقات الفقيرة، فعزلت الجماعات الإرهابية عن جمهورها الذى ادعت أنها تلقى القنابل، وتقتل كبار الرأسماليين من أجله.
والمدهش أن تلك «النظرة السياسية» للإرهاب ظلت تحكم الغرب طويلا، بل إنه- الغرب- أسقطها مرة أخرى على الواقع العربى، حين اختزل الإرهاب فى الواقع المحلى لا العالمى، دون أن يستكمل هذا الخط السياسى إلى استقامته، ويرى أن هناك مسؤولية للواقع الدولى وللتداعيات الثقافية والدينية والسياسية التى أعقبت الاحتلال الأمريكى للعراق أدت إلى تصاعد الإرهاب، ومثلت نقطة فاصلة فى تاريخه.
إن إرهاب العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضى كانت دوافعه محلية- تغيير نظم الحكم القائمة- ومارسته تنظيمات محلية كالجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد، وكانت قيادتها معروفة، ليس فقط للأجهزة الأمنية، إنما لباقى القوى السياسية، وقامت بتجنيد عناصرها الجديدة، عبر قيادات فى القرية والمدينة والمحافظة والمسجد، وعبر قواعد تنظيمية محكمة وواضحة.
وكان اعتداء الأقصر عام 1997 هو الأخير فى مسار هذا العنف المحلى، والذى أعقبته حالة من الهدوء لسنوات طويلة إلى أن أعلنت الولايات المتحدة حربها على الإرهاب، والتى بدأتها فى أفغانستان، وانتهت فى العراق.
سيظل 11 سبتمبر بمثابة نقطة فاصلة فى طريقة تعامل العالم مع ظاهرة «الإرهاب الدينى» الذى عرفته كثير من بلدان العالم الإسلامى، ودل على أن مواجهته لن تكون فقط بالأساليب الأمنية والعسكرية (رغم أنها إحدى الوسائل المهمة) إنما أيضا مواجهة عقائدية وسياسية وفكرية، كما أن فكرة بناء بديل سياسى مصنع خارج الحدود ومحمول جوا، عبر قوة احتلال أو غزو، فشلت فشلا مدويا، بل دفعت الكثيرين لأن يتذكروا بالخير العراق غير الطائفى فى عهد صدام حسين، حتى لو كان استبداديا، لأن البديل الذى صنعته أمريكا كان أسوأ من السيئ الذى كان موجوداً من قبل.