عمرو حمزاوى يكتب | أن تسكن الوطنية المصرية مخيلة الناس
تدريجيا، صنعت مؤسسات وأجهزة الدولة الحديثة التى أنشأها محمد على فى القرن التاسع عشر عبر تدخلاتها المتراكمة فى حياة الفرد وقطاعات المجتمع ومن خلال سعيها المستمر لفرض «السلطة» و«النظام العام» وإخضاعها الأفراد لخبرات متشابهة (داخل النظم التعليمية والمؤسسات الصحية وفى الجيش ومدارسه العسكرية وفى المستويات الإدارية المختلفة) الشعور الوطنى المصرى والهوية الوطنية المصرية.
إلا أن «المصرية» سرعان ما تجاوزت تدخلات مؤسسات وأجهزة الدولة وخرجت من عباءة فرض «السلطة» و«النظام» من قبل الحكام، وسكنت فى مخيلة الناس وقطاعات المجتمع إيمانا بالانتماء والمصير المشترك وأنتجت عبر القرنين التاسع عشر والعشرين هبات وانتفاضات وثورات شعبية ترجمت الشعور الوطنى والهوية الوطنية تارة إلى مطالب بمشاركة «أولاد البلد» فى إدارة شئونهم وتارة أخرى إلى مساءلة ومحاسبة لحكامهم وتارة ثالثة إلى إنجاز الاستقلال والتوزيع العادل للثورة ورابعة إلى الحصول على حقوقهم وحرياتهم فى إطار مواطنة تلتزم المساواة والعدالة وسيادة القانون.
تاريخيا، حمت الوطنية المصرية ما إن سكنت فى مخيلة الناس وقطاعات المجتمع تماسك مؤسسات وأجهزة الدولة الحديثة حين رتبت عوامل داخلية وخارجية اهتزازها وهددت بقاءها أو أفقدتها استقلالها (النسبى) ــ ولم تكن الثورة العرابية فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلا تعبيرا عن ذلك الأوضح.
تاريخيا، قاومت الوطنية المصرية ما أن سكنت فى مخيلة الناس وقطاعات المجتمع نزوع الحكام إلى الاستبداد واختزال دور الدولة فى الفرض القسرى والقمعى للسلطة على نحو عصف بالاستقلال وأفسد عمليات التحديث وراكم من الانفصال المشاعرى والأخلاقى والذهنى (المتوارث منذ حقب وفترات أقدم) بين الناس من جهة وبين الحكام ومؤسسات وأجهزة الدولة التابعة لهم من جهة أخرى ــ ولم تكن ثورة 1919 إلا التعبير الشعبى الأروع عن رفض الاستبداد وطلب العدل.
تاريخيا، غزت الوطنية المصرية ما إن سكنت مخيلة الناس وقطاعات المجتمع بناء الدولة وقادت «أولاد البلد» الممثلين فى المؤسسات والأجهزة المدنية والعسكرية والإدارية إلى التماهى مع مطالب الاستقلال ورفض الاستبداد والوصول إلى التوزيع العادل للثروة- ولم 23 يوليو 1952 إلا التعبير المباشر عن هذا التماهى الذى استكمل الاستقلال وشرع فى إنجاز التوزيع العادل للثروة وأخفق إخفاقا ذريعا فى التخلص من الاستبداد وتمكين الناس من حقوقهم وحرياتهم.
تاريخيا، أنقذت الوطنية المصرية ما أن سكنت مخيلة الناس وقطاعات المجتمع الاستقلال والسيادة حين عجز الحكام وعجزت مؤسسات وأجهزة الدولة عن ضمانهما، ولم تقبل أن تتحول المطالب الديمقراطية المتمثلة فى سيادة القانون وحقوق وحريات الناس والمشاركة الشعبية إلى مسكوت عنه، وهى تعيد العافية إلى الدولة وتعطى من لحمتها لإضفاء التماسك والفاعلية على مؤسساتها وأجهزتها ــ ولم يكن رد الفعل الشعبى والمجتمعى الشامل بين 1967 و1973 إلا التعبير الخالد عن وطنية مصرية عقلانية ورشيدة.
هذه الوطنية المصرية هى التى فتحت أبواب تحولات ديمقراطية وعمليات تحديث جديدة فى 25 يناير 2011 ولم تقفز أبدا فوق ضرورات الاستقلال وتماسك مؤسسات وأجهزة الدولة والدفاع عن الأمن القومى وبحثت عن العدل برفع المظالم وبحماية الحقوق والحريات وعن العدالة بتوزيع الثروة ومحاربة الفساد وعن التقدم برفض الفاشية الدينية والتطرف الفكرى كراهية الآخر، هذه الوطنية المصرية الحقة هى التى ستواصل مقاومة اختزال الدولة فى مؤسسات وأجهزة للفرض القسرى السلطة واختزال الوطنية فى مقايضة فاسدة بين الأمن والحرية.
غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.