عمرو حمزاوى يكتب | اقتصاد القمع
لا مبادئ فى كلمات الأسطر التالية، ولا أثر لقناعتى الشخصية بأفضلية الديمقراطية وصون حقوق الإنسان والحريات على بناء الاستبداد وتجديد السلطوية. كلمات الأسطر التالية لا تحمل إلا مجموعة من الملاحظات المستمدة من الدراسات الفلسفية والعلوم الاجتماعية والسياسية بشأن موارد واقتصاد القمع وتداعياته.
لممارسات القمع ولانتهاكات حقوق الإنسان وللإجراءات المقيدة للحريات موارد مؤسسية ومادية ومعنوية تستخدمها، ونتائج تبتغى تحقيقها هى إخضاع المواطن وتهجيره من المجال العام والسيطرة على المجتمع وضمان استمرار منظومة الحكم/ السلطة والحفاظ لحلفائه على مواقع الثروة والنفوذ والامتيازات.
هكذا يفسر، مثلا، الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو تحولات الحكم/ السلطة فى المجتمعات الأوروبية الغربية فى القرنين السابع عشر والثامن عشر وبها استبدلت ممارسات التعذيب العلنى لإخضاع المواطن وفرض طاعة الحاكم بقوانين وممارسات عقابية طبقتها مؤسسات وأجهزة الدولة كما شارك بها مؤسسات عامة ومصالح خاصة كان لها مواقع مجتمعية مختلفة – من المؤسسات الدينية إلى المصالح الاقتصادية والتجارية والمالية.
هكذا يفسر، أيضا، الكثير من الفلاسفة والمؤرخين وباحثى العلوم الاجتماعية والسياسية الألمان اعتماد النازى على تكنولوجيات متطورة (بمعايير ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين) لتنفيذ جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية والقتل وممارسات القمع بصرامة إدارية وبكفاءة «اقتصادية» عالية جوهرها معادلة «استخدام موارد أقل وتحقيق نتائج أفضل» غير الأخلاقية – ولم تكن محارق الغاز لليهود الألمان والأوروبيين إلا وليدة هذه الحسابات والمعادلات.
هكذا يفصل، ثالثا، بعض باحثى العلوم الاجتماعية والسياسية والعلاقات الدولية فى عوامل سقوط الاتحاد السوفييتى السابق وتحولات الكتلة الشرقية حين اختلت العلاقات بين أضلاع مثلث القمع والانتهاكات واستخدمت تصاعديا الموارد المؤسسية والمادية والمعنوية لإخضاع المواطن والسيطرة على المجتمع والحفاظ على منظومات الحكم/ السلطة وأهملت قضايا التنمية المستدامة والتقدم الشامل على نحو رفضت معه قطاعات شعبية واسعة مواصلة الاستكانة «للقبضة الحديدية» وتحركت للمطالبة بحرياتها الشخصية والمدنية بعد أن انحسرت حقوقها الاقتصادية والاجتماعية.
هكذا تفهم، رابعا، مراحل التحول الديمقراطى المتتابعة فى جنوب أوروبا وفى شرق آسيا وفى أمريكا اللاتينية وفى القارة الإفريقية وفى البلدان العربية التى تصاعد بها خلال السنوات الماضية الطلب على الحقوق والحريات فى ارتباطها الوثيق بتورط الحكام فى استنزاف الموارد المختلفة وفى تشويه البنى والتفاعلات الاقتصادية ذات الملكية العامة والخاصة بغية إخضاع المواطن والسيطرة على المجتمع وما ترتب على ذلك من ممارسات قمعية وانتهاكات متزايدة استحال تنفيذها على مدى زمنى متوسط أو طويل ومن أزمات مجتمعية شاملة دفعت الناس إلى البحث عن التغيير وطلبه فى سياقات ديمقراطية.
وهكذا، يعيد الحكم فى مصر الكرة بالتوسع فى استنزاف موارد مؤسسات وأجهزة الدولة وفى استهلاك طاقات وإمكانيات «حلفائها» بين النخب الاقتصادية والمالية والإعلامية لتمرير ممارسات قمعية وانتهاكات للحقوق وللحريات لكى تخضع المواطن وتسيطر على المجتمع وتفرض السلطة الانضباطية – ولنا فى الجامعة اليوم نموذج مؤلم. إلا أن الحكم يتجاهل حقيقة أن الاختلالات بين أضلاع مثلث القمع والانتهاكات حاضرة بالفعل ومرشحة للتصاعد، وأن التداعيات معروفة ومتوقعة.
غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.