فى الجزائر أعيد انتخاب عبدالعزيز بوتفليقة كرئيس لدولة يديرها المكون العسكرى ــ الأمنى، وتخفق منذ سنوات فى تحقيق معدلات تنمية شاملة تتناسب مع مواردها الطبيعية والبشرية، وتكتفى بتوزيع جزء من ريع النفط والغاز الطبيعى على الناس لضمان ولاء البعض وقمع البعض الآخر.
فى سوريا يواصل نظام الديكتاتور بشار الأسد ارتكاب جرائمه ضد شعب يعانى ويلات الدمار والتهجير والبحث عن لجوء آمن فى جوار إقليمى مضطرب، ويتحسن الوضع العسكرى للنظام فى مواجهة معارضين أضاع بعضهم نقاء الثورة السورية بجرائمهم وتطرفهم وطائفيتهم المضادة لطائفية الأسد.
فى ليبيا تتفكك مؤسسات الدولة نتيجة لعجزها عن السيطرة على الموارد الأساسية (النفط) ولانهيار احتكارها للقوة المسلحة، وتتقطع أوصال المجتمع بفعل خصخصة حمل السلاح وتنوع الهويات الإقليمية.
فى العراق، وبعد مرور أكثر من عشرة سنوات على الغزو الأمريكى وإسقاط نظام الديكتاتور صدام حسين، لم يزل الشعب العراقى يعانى من العنف الأهلى وغياب الأمن واستمرار الأعمال الإرهابية، ولم تزل الصراعات الطائفية والمذهبية تعصف بالاستقرار وفرص التنمية فى الجنوب والوسط، ولم تبتعد إلا عن الشمال الذى تسيطر عليه القوى الكردية وتدار أوضاعه باستقلال ذاتى عن حكومة بغداد، والأخيرة استبيحت مؤسساتها وأجهزتها للقوى الطائفية والمذهبية، واستبيحت أيضا خارجيا من قبل إيران التى فرضت هيمنتها واستتبعت ما تبقى من «الدولة العراقية» عبر بعض القوى الشيعية وعبر أدوار الأجهزة الاستخباراتية والأمنية الحرس الثورى.
•••
فى مصر، وبعد سلسلة من الأخطاء الكبرى خلال الفترة الممتدة منذ ١١ فبراير ٢٠١١ وإلى ٣ يوليو ٢٠١٣، يعود المكون العسكرى ــ الأمنى للسيطرة على شئون الدولة والمجتمع ولاستتباع القوى السياسية ترهيبا أو ترغيبا ولتجديد دماء السلطوية التى بدأت فى خمسينيات القرن العشرين، ولم تتراجع أبدا، ويعانى السلم الأهلى من تحديات جسيمة مرتبطة بتصاعد انتهاكات الحقوق والحريات والمظالم التى تنتشر خرائطها بطول وعرض البلاد وبتنامى الأعمال الإرهابية والعنف، وتتراجع معدلات التنمية المستدامة وتزداد مؤشرات الفقر والبطالة تدهورا وتنهار الكثير من القطاعات الخدمية، ويتدخل المال الخليجى للإنقاذ المرة تلو الأخرى، وتموت السياسة وتسيطر فاشية الإقصاء والتخوين والعقاب الجماعى على فعل الحكم وتحيل المعارضين إلى خانات المغصوب عليهم.
فى اليمن تتعطل عمليات التحول الديمقراطى فى سياق صراعات مستعرة بين قوى قبلية ومذهبية وتقليدية وسياسية مختلفة وتنامى النزعات الانفصالية فى الشمال والجنوب، وتبلغ معدلات الفقر والبطالة وندرة المياة والتصحر وأزمات الخدمات التعليمية والصحية وضعية كارثية لا تختلف عما كان عليه الحال قبل الحراك الثورى فى ٢٠١١ والإطاحة بالرئيس السابق على عبدالله صالح، ويتواصل تدخل دولة الجوار الأكبر السعودية فى الشئون اليمنية لتعديل الحدود بين الدولتين لصالحها وللقضاء على فرص التحول الديمقراطى ولتمكين القوى التقليدية والمحافظة من العودة إلى حكم اليمن وإن ضحى بوحدة الشمال والجنوب.
فى السودان يوظف الحاكم السلطوى ذات سياسات شراء الولاء والتهديد بالقمع التى رتبت تاريخيا انفصال الجنوب وفرضت وضعية الحرب الاهلية على بعض أقاليم البلد مترامية الأطراف، وقضت على الحريات فى الشمال، وعلى الرغم من تحسن بعض مؤشرات التنمية المستدامة وتصاعد فاعلية التوظيف التنموى لريع الموارد الطبيعية المتمثلة فى النفط والغاز والثروة الزراعية والحيوانية فإن الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتعمق وتهميش الأقاليم الطرفية، وتغيب فرص التحول الديمقراطى بسبب سيطرة نظام عمر البشير على الموارد الطبيعية وريعها وضعف المعارضات التقليدية والسياسية وتواصل تحالفات الكراسى الموسيقية بين الحكم والمعارضة ( البشير مع الترابى ثم البشير ضد الترابى ثم البشير مع الترابى).
•••
فى فلسطين، وفى مواجهة التوحش العنصرى والاستيطانى الإسرائيلى وانهيار الفرص الفعلية لتسوية سلمية تضمن للشعب الفلسطينى حق تقرير المصير ببناء الدولة المستقلة وبعودة اللاجئين وبتعويضهم عن الضرر التاريخى، الذى لحق بهم، تتباعد الضفة الغربية عن قطاع غزة (بعيدا عن إتفاق المصالحة الذى وقع قبل أيام)، وتستمر هنا وهناك هيمنة قوى غير ديمقراطية تخللت شبكات الفساد والريع والممارسات الأمنية أبنيتها، وبينما يلتهم التوحش الإسرائيلى الأرض فى الضفة تبلغ معاناة فلسطينى القطاع بسبب الحصار حدودها القصوى.
فى لبنان، ومع ضرورة التشديد على أن البيئة المجتمعية والسياسية الضامنة للحريات الشخصية والمدنية ولحرية الفكر والتعبير عن الرأى وللحريات الدينية على وجه الخصوص لم تزل فى وضع أفضل بوضوح من جميع البلدان العربية، تستمر الهيمنة الكاملة للطائفية على الدولة والمجتمع والسياسة، وهى إن ضمنت تمثيل بعض القوى الرئيسية إلا أنها تهمش الكثير من الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتتراجع قدرات الدولة على ممارسة سيادتها وفرض احترام حقها فى الاستخدام المشروع للقوة المسلحة والجبرية إزاء قوة الطوائف ووضعية حزب الله كدولة داخل الدولة، ويتنامى التطرف الدينى والمذهبى فى بعض المناطق (الشمال)، ويتداخل مع تداعيات الأوضاع السورية على لبنان التى نزح إليها أكثر من مليون سورية وسورى، وتعرض الحياة السياسية والنقاشات السياسية على الرأى العام اللبنانى وجوه لمجرمى الحرب الأهلية القدامى، وهى تختلط بالوجوه المعتمدة على الريع المقبل إن من الخليج العربى أو من إيران أو من إسرائيل، ويؤدى الجميع أدوار بالوكالة فى سوريا وغيرها لخدمة مصالح داعميهم إن فى الرياض أو فى طهران أو فى تل أبيب، ويخفت تماما صوت القوى الديمقراطية التى طالبت قبل وبعد ٢٠١١ بالقضاء على النظام الطائفى وتحقيق بناء ديمقراطى مكتمل وتنمية مستدامة واستعادة سيادة الدولة الوطنية فى لبنان.
فى الأردن، هنا أيضا مع التشديد على تميز البيئة المجتمعية والسياسية، التى تضمن قدرا معتبرا من الحريات الشخصية والمدنية، تسود حالة من الاستقرار الشكلى المستندة إلى الدعم المالى والاقتصادى من مجلس التعاون الخليجى، وإلى مزج الملكية الهاشمية بين استراتيجيات توزيع الريع (القادم من الخليج) لضمان ولاء قوى تقليدية ومجتمعية وسياسية وأدوات الدولة الأمنية لضبط المجتمع والسيطرة على الحراك السياسى ومظهرية الإصلاح والإجراءات الديمقراطية المحدودة للحفاظ على سلطتها، والمستندة إلى رغبة جميع القوى الكبرى والإقليمية ذات التأثير فى الأوضاع الأردنية ــ من الولايات المتحدة وأوروبا إلى مجلس التعاون الخليجى وإسرائيل ــ فى بقاء أوضاع المملكة المجاورة للعراق المأزوم منذ عقود ولسوريا، التى تمر اليوم بوضعية كارثية دون تغيير.
•••
أما بلدان مجلس التعاون الخليجى، ومع أخذ حالة البحرين فى الاعتبار التى تشهد انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وللحريات وتتدخل بشئونها السعودية للحفاظ على النظام الملكى القائم وتبحث بها إيران دوما عن منافذ للتأثير متذرعة بالأغلبية الشيعية، فتوظف ريع النفط والغاز الطبيعى بنجاح لفرض مقايضة «لا ضرائب فى مقابل لا تمثيل سياسى ولا محاسبة للحكام» ولتطبيق استراتيجيات توزيع الريع والعوائد الاقتصادية والمالية والاجتماعية على السكان الأصليين والتهديد بالقمع حال الخروج طاعة الحكام، ويقدم بعضها نموذجا لاقتصاد الريع والخدمات والنزوع الاستهلاكى مع تحسن بعض مؤشرات التنمية المستدامة (القضاء على الأمية والتعليم وضمانات اجتماعية وخدمات صحية متميزة) جذابا للبعض فى العالم العربى، وتتحرك فى العالم العربى للقضاء (وإن اختلفت جزئيا المصالح السعودية عن القطرية) على فرص التحول الديمقراطى وتمكين الشعوب ولتقسيم المنطقة وفقا لخريطة طائفية ومذهبية تستند إلى الثنائية السنية ــ الشيعية.
ولا يخرج عن عموم الحالة العربية هذه، بتفاصيلها التى تغيب عنها الديمقراطية والتنمية المستدامة وبهيمنة القوى السلطوية عليها ــ المكون العسكرى ــ الأمنى، القوى التقليدية والقبلية والمحافظة، الحاكم الفرد وطغمته، الطوائف والقوى المذهبية والنظم المستندة إليها ــ إلا تونس التى تقترب من تحول ديمقراطى واضح المعالم والمملكة المغربية التى تواصل تدرجيتها الناجحة بتنمية مجتمعية وانفتاح سياسى يستند إلى تحديد محكم لأدوار الملك والقوى السياسية والجهوية (المناطقية) المختلفة.
•••
بعد ثلاث سنوات على الثورات والانتفاضات العربية، تدلل خريطة عالمنا بوضوح على انتصار مرحلى للسلطوية وقواها المترابطة إقليميا وتراجع للقوى الديمقراطية الباحثة عن الحق والعدل والحرية والتنمية المستدامة والتى لم تتغير وضعيتها الإقليمية بالغة التفكك.