عمرو حمزاوى يكتب | شىء من الرشادة السياسية
قبل بضعة أيام، أطلع مسئولون فى الاتحاد الأوروبى إعلاميين وصحفيين على مضمون اتصال هاتفى دار بين الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ورئيس الاتحاد الأوروبى خوسيه مانويل باروزو وتناول الأوضاع المتوترة والمواجهات العسكرية فى أوكرانيا. وكان من بين ما ذكر للإعلاميين وللصحفيين جملة نسبها باروزو للرئيس الروسى فحواها أن روسيا إن أرادت تستطيع أن «تسيطر على العاصمة الأوكرانية كييف خلال أسبوعين فقط»، وهو ما اعتبره المسئول الأول للاتحاد الأوروبى تهديدا روسيا مباشرا بالمزيد من التصعيد العسكرى إزاء أوكرانيا وفسخا كاملا لعلاقات التعاون مع دول الاتحاد التى رفضت اقتطاع شبه جزيرة القرم من الأراضى الأوكرانية وضمها لروسيا ودعم الانفصاليين فى شرق أوكرانيا بالسلاح وبوحدات من الجيش الروسى، ومن ثم فرضت مع الولايات المتحدة الأمريكية حزمة من العقوبات مرشحة للتشديد.
على الرغم من النفى الروسى الرسمى (جاء على لسان وزير الخارجية سيرجى لافروف) لكون «جملة بوتين» حملت نوايا تصعيد عسكرى وتأكيد مسئولين روس على أن «الجملة اقتطعت من سياقها»، إلا أن الإعلام الأوروبى والأمريكى اشتعل بتصريحات لمسئولين غربيين يعلنون العودة إلى عقود «الحرب الباردة» والمواجهة الشاملة مع روسيا ويطالبون الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية والتجارية والمالية والتكنولوجية. وبينما حذرت تصريحات المسئولين الأوروبيين الغربيين من التهاون مع التهديدات الروسية أو مع التدخل العسكرى فى أوكرانيا خشية إعادة إنتاج «كارثة» التهاون مع بدايات النازية والفاشية فى القرن العشرين والحرب العالمية الثانية التى ترتبت عليها، ركزت تصريحات مسئولى دول أوروبا الوسطى والشرقية الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى والناتو على «خطر الإمبريالية الروسية» وحتمية الجاهزية العسكرية للدفاع عن سيادة دول كبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا لا تريد العودة إلى «الفلك الروسى» وكذلك الجمهوريات لتى استقلت مع انهيار الاتحاد السوفييتى كدول البلطيق وأوكرانيا وجمهوريات آسيا الوسطى.
ومع أن الأيام القليلة الماضية شهدت تصعيدا معاكسا فى بعض وسائل الإعلام والصحف الروسية، وتداولت تصريحات لمسئولين روس يتحدثون عن «روسيا الجديدة» التى لن تقبل بتوظيفها جوارها المباشر لتهديدها إستراتيجيا ولن تتخوف من العقوبات الغربية، إلا أن الرئيس الروسى بوتين وفريقه عمد بعقلانية ورشادة إلى التهدئة العلنية والانحناء أمام العاصفة الأوروبية بتقديم بعض التنازلات. فوافقت موسكو على إجراء محادثات مع الحكومة الأوكرانية بشأن شبه جزيرة القرم والجزء الشرقى فى أوكرانيا والقضايا الأخرى، وعادت إلى تفعيل بروتوكول التعاون بينها وبين دول حلف الناتو بتبادل بعثات المراقبة العسكرية (بروتوكول السماوات المفتوحة)، وجددت الدعوة للولايات المتحدة ولدول الاتحاد الأوروبى لحوار استراتيجى بهدف تنشيط التعاون وتشجيع الاستثمارات وتجاوز العقوبات.
بعيدا عن الصورة الذهنية غير الصحيحة التى يصنعها الإعلام المصرى عن روسيا التى تبحث عن مواجهة الغرب, يدرك بوتين وفريقه جيدا أن السيادة والمصالح الروسية تقتضى الكثير من التعاون مع الغرب تماما كما تنتج بعض الصراعات بشأن أوضاع دول الجوار الروسى أو قضايا إقليمية فى مناطق عدة، من بينها الشرق الأوسط. بوتين، الذى يمقت حديث الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويعمل منذ سنوات على تجديد دماء السلطوية الروسية، يدرك برشادة أن مصلحة دولته الوطنية تلزم بالتعاون مع الغرب والبحث عن طرق لاحتواء الصراعات وليس لتفجرها. وحتما سيتفاعل الغرب بإيجابية مع التهدئة الروسية نظرا لمصالحه الكثيرة هو أيضا مع روسيا، وبعيدا عن التصعيد الإعلامى وتصريحات مسئولين وسياسيين لا يدركون أن حقائق التاريخ والجغرافيا تفرض على الولايات المتحدة وأوروبا احتواء الصراع واستعادة التعاون.
شىء من الرشادة فى إدارة الأزمات السياسية الكبرى تظهره، إذن، نظم حكم سلطوية وكذلك نظم حكم ديمقراطية. شىء من الرشادة ما أحوجنا إليه اليوم فى مصر بأزماتها الداخلية المتراكمة والتحديات الإقليمية الكثيرة، بعيدا عن تهافت نظريات المؤامرة وفساد الصور النمطية المروجة إعلاميا.
غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.