عمرو حمزاوى يكتب | غزة.. أو أين نحن من الحقيقة؟
غزة، فلسطين المحتلة – أكثر من ٧٠٠ شهيد، آلاف الأطفال والنساء والرجال بإصابات مختلفة، قطاع صحى عاجز عن توفير العلاج للأعداد الكبيرة من المصابين، تدمير منظم للبنى التحتية، معابر مغلقة وقوافل مساعدات لا تصل، شعب يواجه آلة قتل إسرائيلية فتاكة ويتضامن جماعيا إزاء العدوان الوحشى وتحت الحصار البرى والبحرى والجوى.
جنيف، سويسرا – تصدر المفوضية الأممية لحقوق الإنسان تقريرها بشأن غزة وتشير إلى دلائل على تورط إسرائيل فى جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية بحق السكان المدنيين فى القطاع. إذن، ها هو تقرير دولى لا يتخوف من استخدام المفردات التى يتعين استخدامها لتوصيف عدوان إسرائيل وجرائمها، بينما تعمد البيانات الصادرة عن جامعة الدول العربية وعن الحكومات العربية – فى أحسن الأحوال – إلى توظيف لغة دبلوماسية «محايدة» تطالب بوقف إطلاق النار وتحمل إسرائيل كسلطة احتلال مسئولية الحفاظ على أرواح المدنيين وتندد بتوالى سقوط الضحايا.
رام الله، فلسطين المحتلة: يتحرك الرئيس محمود عباس بين العواصم العربية فى مسعى للوصول إلى وقف لإطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، إلا أن فعاليته وفاعلية السلطة الفلسطينية غائبة. لا يستطيع الرئيس عباس أن يعد أهل غزة برفع الحصار حال التوصل إلى وقف لإطلاق النار وبإطلاق جهود إعادة التعمير والتنمية بعد تدمير إسرائيل المنظم للقطاع، لا يستطيع أن يعد حماس والجهاد الإسلامى وبقية الفصائل بأن إسرائيل ستخرج من سجونها الفلسطينيين الذين أعادت اعتقالهم قبل العدوان الحالى وكانوا من بين من أفرج عنهم فى صفقة الجندى الإسرائيلى الأسير جلعاد شاليط أو بأن إسرائيل ستتوقف عن أعمالها العدوانية، لا يستطيع أن يعد الشعب الفلسطينى فى القدس والضفة الغربية وغزة بأفق حقيقى لسلام تفاوضى يستند إلى حل الدولتين بعد أن قطع الإجرام الاستيطانى أوصال القدس والضفة وتحول التفاوض إلى عبث كامل وقزمت إسرائيل السلطة الفلسطينية إلى وكيل أمنى، لا يستطيع أن يعد كل فلسطين وشعبها فى القدس والضفة وغزة وداخل فلسطين ٤٨ وفى مواطن اللجوء والهجرة والشتات بإنهاء الاحتلال الإسرائيلى وبانتزاع حق التقرير المصير.
<<<
لا يستطيع الرئيس عباس أن يعد بأى من ذلك، بل ولا يستطيع أن يحافظ على بقاء حكومة المصالحة الفلسطينية التى من بين أهداف عدوان إسرائيل الحالى على غزة القضاء عليها، ولم يعد لحديث السلطة فى رام الله عن استقرار ورخاء القدس والضفة الغربية الكثير من المضمون. أهل القدس والضفة وغزة وبقية الشعب الفلسطينى يريدون من الرئيس عباس أمرا واحدا، التوقيع على اتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية ومن ثم الانضمام لنظامها الأساسى وتمكين السلطة من الملاحقة القانونية الدولية لجرائم الإبادة الإسرائيلية وجرائمها ضد الإنسانية وملاحقة المتورطين فيها دوليا. القدس والضفة وفلسطين ٤٨ ومخيمات اللاجئين والأجيال المتعاقبة للفلسطينيين فى الهجرة والشتات جميعهم يتحدثون اليوم نفس اللغة ويستخدمون ذات المفردات، آن آوان الانتفاضة السلمية الثالثة وإنهاء عبث أوسلو التفاوضى والتوقيع على اتفاقية روما وملاحقة مجرمى إسرائيل دوليا.
<<<
نيويورك / واشنطن / لندن/ باريس / فرانكفورت، عواصم الصحافة والإعلام الغربى – تغيير نوعى تشهده التغطية الإخبارية ومقالات الرأى والحوارات الصحفية والتليفزيونية للعدوان الإسرائيلى على غزة مقارنة بعدوان ٢٠٠٨ و٢٠١٢ ومن قبلهما عدوان إسرائيل على لبنان فى ٢٠٠٦. لم يعد رائجا الانحياز لإسرائيل، لم يعد مقبولا صياغة التبريرات الأخلاقية والسياسية الزائفة لجرائمها وتحميل حماس والفصائل الفلسطينية مسئولية سقوط الضحايا والمصابين، لم يعد ممكنا الصمت عن جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، لم تعد لإسرائيل وضعية الحصانة الصحفية والإعلامية التى كانت لها طوال السنوات والعقود الماضية وهى تستبيح الشعب الفلسطينى وتمارس الإجرام الاستيطانى وتضرب عرض الحائط بقواعد القانون الدولى العام والإنسانى وقرارات الأمم المتحدة.
تنشر النيويورك تايمز مقالات رأى توثق لجرائم إسرائيل فى غزة وتقارن بينها وبين جرائم النازى بحق اليهود فى الحرب العالمية الثانية، ومقالات باسم «مجموعة الأزمات الدولية» ومراكز أبحاث أخرى تؤكد على أن إسرائيل هى التى أرادت «إشعال الحرب الراهنة» وليس حماس غير المتورطة فى قتل المستوطنين الإسرائيليين الثلاثة، وتستخدم التغطية الإخبارية مفردات كجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وعبارات كإسرائيل تحول غزة إلى معسكر إعدام مفتوح. موقع الواشنطن بوست يحدث دوريا أعداد الضحايا من الأطفال والنساء والرجال فى غزة، ويركز على غياب المبررات الأخلاقية لقتل «كل هذا العدد من الأطفال»، وينشر مقالات رأى تحمل إسرائيل مسئولية القتل الجماعى كما ينشر مقالات تصف حرب إسرائيل «ضد حماس» كحرب بقاء وتدافع عن قرارات حكومة نتيناهو و»تعقل» الجيش الإسرائيلى. الصحف البريطانية والفرنسية والألمانية، بما فى ذلك الصحف القريبة من اليمين السياسى والحزبى المؤيد تقليديا لإسرائيل، لم تجمل مشهد العدوان الإسرائيلى على غزة، ولم تتجاهل الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، ولم تبالغ فى فرض «دراما الموت وفقدان الأبناء والأصدقاء» على التغطية الصحفية حال متابعة سقوط قتلى فى صفوف الجيش الإسرائيلى أو بين المدنيين.
<<<
اليوم تبدو إسرائيل عارية وهى تقتل الأطفال والنساء والرجال، اليوم لا حصانة لها فى الصحافة الأمريكية والأوروبية ولا فى الإعلام الغربى ولم يعد الأمر بقاصر على صحافة اليسار وشبكة «السى ان ان» وبعض مقالات الرأى الموضوعية من هنا ومن هناك، اليوم يقارن صحفيون وإعلاميون غربيون بين جرائم إسرائيل وجرائم النازى وجرائم الولايات المتحدة فى فيتنام وجرائم نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا، اليوم يطالب كتاب غربيون بإعادة النظر فى مسار المفاوضات وحل الدولتين بعد أن أماتته إسرائيل ويطالبون برفع الحصار الظالم عن عزة ويعبرون عن تفهم لأسباب تمسك حماس والفصائل الأخرى برفع الحصار وفتح كافة المعابر مع وقف إطلاق النار وعلى الرغم من الكلفة الإنسانية الباهظة.
<<<
القاهرة، مصر – مشهد صحفى وإعلامى بائس، نقاش عام رديء تغيب عنه المعلومات والحقائق والرشادة، بعض الذين أسهموا فى المشهد البائس والنقاش الرديء يحاولون التراجع الآن بعد أن تجاوز عدد الشهداء ٧٠٠ وتحدثت المفوضية الأممية لحقوق الإنسان عن شواهد جرائم إبادة وتوازن الإعلام الغربى. مدافعون عن إسرائيل، محيون «لضربات» الجيش الإسرائيلى، مبررون لسقوط الفلسطينيين بين قتلى ومصابين (هم فى عالم هؤلاء ليسوا شهداء ولا ضحايا) بعبارات من شاكلة «ما يتقتلوا» / «هما عايزين كده» / «هما السبب، مش قتلوا المستوطنين الأول» / وغيرها.
أصوات صحفية وإعلامية، أقل جنونا من هؤلاء البائسين الذين يظنون ان إسرائيل هى الصديق وأن الشعب الفلسطينى هو العدو، تحمل دون معرفة حماس والفصائل الفلسطينية مسئولية عدوان إسرائيل نظرا لقتل المستوطنين الثلاثة – والحقيقة هى أن حماس لم يثبت عليها التورط فى قتلهم، يتهمون حماس بالتضحية بالفلسطينيين من أطفال ونساء ورجال لبقاء الحركة سياسية ولخدمة أجندات إقليمية تركية وقطرية – والحقيقة هى أن الحصار الظالم على غزة لم يترك لا لحماس ولا للفصائل الأخرى الكثير من الاختيارات غير المطالبة برفع الحصار والتشبث بكل من يطالب بذلك، يدعون أن حماس والفصائل تطلق صواريخها لتوريط إسرائيل والمدنيين الفلسطينيين فى مواجهات لا طائل من وراءها – والحقيقة هى أن حماس والفصائل يطلقون الصواريخ اليوم كدفاع شرعى عن النفس ولم يصعدوا قبل الاستفزازات الإسرائيلية التى سبقت العدوان الحالى ولم يغفلوا كون الصواريخ بمفردها لن تأتى برفع الحصار عن غزة أو حق تقرير المصير لفلسطين، يقولون أن حماس تريد حربا أبدية ضد إسرائيل – والحقيقة أن حماس براجماتية ولا تعارض هدنة طويلة الأمد حال قيام الدولة الفلسطينية وإنهاء احتلال إسرائيل لأراضى ١٩٦٧ ومؤخرا أشار خالد مشعل إلى نزع سلاح المقاومة فى هذا الإطار.
بعض هذه الأصوات الصحفية والإعلامية، وبعد أن أسهمت فى حملة الكراهية ضد فلسطين وتجريم المقاومة والترويج لغير الموضوعى وغير الدقيق من الرؤى ككون حماس تريد الحرب الأبدية والدمار الشامل ولا يفعل قادتها إلا التآمر مع تركيا وقطر والسكن فى فنادق الدوحة والعمل ضد مصر ومبادرتها وتجاهلوا تماما الحصار الظالم المفروض على غزة والجرائم المرتكبة بها، يبحثون الآن عن العودة قليلا إلى الوراء خشية التماهى الدائم مع جموع البائسين من المدافعين عن جرائم إسرائيل وبعد أن انقلبت قطاعات فى الرأى العام العالمى عليها وأدانت الإبادة والقتل الجماعى وبعد ان اتضح سوء إدارة المبادرة المصرية التى لم ينسق بشأنها مع حماس والفصائل الأخرى. يبحثون عن العودة قليلا إلى الوراء، ويعيدون إنتاج عبارات إدانة إسرائيل التى تناسوها فى الأيام الأولى للعدوان، ويشيرون إلى الحصار الظالم والمفاوضات المفرغة من المضمون وضرورة انتفاض الفلسطينيين فى القدس والضفة وغزة لانتزاع حق تقرير المصير، ويطالبون العرب بالتضامن. يبحثون عن العودة قليلا إلى الوراء، إلا أنهم تأخروا مجددا تماما كما تأخروا فى صيف ٢٠١٣ فى إدانة الخروج على الديمقراطية فى مصر ودماء فض الاعتصامات وانتهاكات حقوق الإنسان الواسعة.