عمرو حمزاوى يكتب | لا تعتذر عما فعلت
«لا تعتذر عما فعلت.. أقول فى سرى. أقول لآخرى الشخصى: ها هى ذكرياتك كلها مرئية: ضجر الظهيرة فى نعاس القط ـ عرف الديك ـ عطر المريمية ـ قهوة الأم ـ الحصيرة والوسائد ـ باب غرفتك الحديدى ـ الذبابة حول سقراط ـ السحابة فوق أفلاطون ـ ديوان الحماسة ـ صورة الأب ـ معجم البلدان ـ شيكسبير ـ الأشقاء الثلاثة، والشقيقات الثلاث، وأصدقاؤك فى الطفولة، والفضوليون: هل هذا هو؟ اختلف الشهود: لعله، وكأنه. فسألت: من هو؟ لم يجيبونى. همست لآخرى: أهو الذى قد كان أنت.. أنا؟ فغض الطرف. والتفتوا إلى أمى لتشهد أننى هو.. فاستعدت للغناء على طريقتها: أنا الأم التى ولدته، لكن الرياح هى التى ربته. قلت لأخرى: لا تعتذر إلا لأمك!».
تذكرت كلمات العظيم محمود درويش بعد حوار مضطرب مع صديق ابتعد ـ قال تكتب عن النقد الذاتى والمراجعة ولا تراجع أفكارك ومواقفك ـ قلت، بل نقدت وراجعت وشرحت ـ قال: لا، أنت كما أنت، تتشبث بحديث الديمقراطية والحقوق والحريات ولا تدرك أن البلاد فى خطر وأوضاع البشر مزرية والاحتياج إلى التوحد وإسكات الأصوات النشاز عظيم ـ قلت لن نتجاوز أزماتنا الراهنة إن سلمنا أن الخطر يقتضى الصوت الواحد وإن سلمنا البلاد إلى قيادة فردية لا ترد لها رؤية أو رغبة وإن تصورنا أن انتهاكات الحقوق والحريات لا تراكم الظلم وترتب العنف وإن استسلمنا إلى وسم الديمقراطية بالترف القابل للتأجيل ـ قال: وأين أوضاع البشر وظروف معيشتهم من أولوياتك وماذا تقدم لهم غير الكلام وهم عنه وعنك انصرفوا؟ قلت لا، أنت تطلق التعميمات، أشعر أن البعض مازال ينتظر ويستمع والبعض الآخر يبحث عن مطالب حياتية مشروعة ومعها كرامة لا تتسق مع القمع والتعذيب والتخوين ــ قال ها أنت تصمت مجددا عن السؤال الذى لا تقدر عليه، وماذا تفعل أنت لهم؟ ـ قلت: أكتب للتوعية بالديمقراطية كضرورة للتقدم ـ قال تقدمت أمم كثيرة بدونها ـ قلت أكتب للتذكير بأن أمل الدولة المدنية العادلة لا يقتصر على رفض الفاشية الدينية، بل يمتد إلى رفض هيمنة المكون العسكرى ـ الأمنى على السياسة والرئاسة ـ قال: لكن الكثير لا يرفضون الأخير ـ قلت أكتب لأحدد شروط بناء تيار ديمقراطى عام يراهن على المدى المتوسط والطويل ويدرك أن التمسك بالمبادئ سيكون له مردود إيجابى ولو بعد حين ـ قال ها أنت مجددا تقدم تمسكك بمبادئك على الواقع وعلى مصالح البلاد والعباد، أليس وراء ذلك خوف مبالغ به على الاتساق وحب جارف للذات؟ ـ قلت: رفقا بى، فهكذا أفهم الصالح العام وهكذا أرى سبيل تقدم مصر بديمقراطية وعدل وحق وحرية وجماعية فى القيادة من أمامها شفافية ومن ورائها رقابة ومحاسبة ـ قال وإذا كان الناس يثقون فى سبيل آخر، ومتكلمون مثلك يأتون بالأمثلة على تقدم أنجزته رئاسات عسكرية وتنمية تحققت بالرغم من هيمنة المكون العسكرى ـ الأمنى ـ قلت: لا، لا تضعنى مع هؤلاء أرجوك، فالرئاسة ذات الخلفية العسكرية فى مصر تأتى معها وضعية المؤسسة العسكرية الاستثنائية فى الدستور وضعف المؤسسات المدنية والتنمية لا تتوازن مع غلبة الحلول الأمنية والمبادرة الفردية تموت حين تقمع الأصوات النشاز كما تقول ـ قال: ألم تسجل أن التحول الديمقراطى لن يموت بغض النظر عن هوية الرئيس القادم؟ ـ قلت لا، بل سجلت أن دفاعى عنه لن يتوقف بغض النظر عن هوية الرئيس القادم الذى أريده مدنيا متمسكا بالحقوق والحريات وليس مساوما عليها وفقا لحسابات الشعبية وصناديق الانتخابات ـ قال: مجددا أسأل: وماذا تفعل أنت للناس؟ ـ قلت التوعية ورسم ملامح بديل سلمى يستنهضه التمسك بالمبادئ ـ قال يقولون إنك مضطرب لاستبعادك من دوائر التأثير وحزين لخسارة شعبيتك، ألا تعترف؟ ـ قلت أعترف بالحزن لعدم تمكنى من رؤية ولديى والمنع من السفر يحول بينى وبين زيارتهما دوريا فى ألمانيا كما دوما فعلت، أعترف بالحزن على حالنا وإن لم أفقد الأمل ـ قال صبرك الله على مسألة ولديك، لكن أليس إحباط بحثك عن دور بسبب لنقدك المستمر؟ ـ قلت تعلم أننى لست بزاهد أو قديس، ولست بمتكالب أيضا، وبجوارى امرأة رائعة تضبط هفوات النفس حين تلوح، الإجابة: لا، ربما تصدقنى ـ قال أعدك بتهميش يستمر ونسيان بدأ وانصراف الأهل والأصدقاء ـ قلت أدرك أننا فى مجتمع لا تحب أغلبيته إلا الأقوياء ولا تجرى نخبه للالتحاق إلا بركب المنتصرين، إلا أننى بلا بدائل هذه المرة ـ قال: غير صحيح، اعتذر وغير الوجهة وتقدم الصف ـ قلت: لا، فغياب البدائل سببه الإيمان بسلامة موقفى وصلابة المرأة التى تضبط هفوات النفس وذكرى الأم التى ما كانت لتسامحنى على قول أو فعل بعيد عن مبادئى وإن اختلفت معها وما كانت لتقبل اعتذار عما قلت أو فعلت.