عمرو حمزاوى يكتب | مصر 2014 .. بارانويا خطر وخوف ومجالس علماء وخبراء
افتتاحية أولى/ نص الحوار فى مشهد سينمائى، فيلم حياة الآخرين، ألمانيا 2005، معالجة نقدية للنظام البوليسى فى ألمانيا الشرقية السابقة (1949-1990) ولانتهاكات حقوق وحريات الناس ولقمع أصحاب الرأى الآخر من مبدعين ومفكرين وفنانين وكتاب / نقلت نص الحوار إلى العامية المصرية لكى أقربه إلى وجدان القراء ولتمكينهم من الربط المشاعرى بين هناك وهنا/
المسئول الأمنى (جهاز أمن الدولة فى ألمانيا الشرقية السابقة “شتازى”): عندك إيه تقولهولنا؟
الشاب المحتجز: أنا ما عملتش حاجة. ما عرفش حاجة. أنا ما عملتش حاجة. أكيد فى غلطة.
المسئول الأمنى: انت ما عملتش حاجة وما تعرفش حاجة؟ معنى ده إنك شايف إن إحنا ممكن نحتجز مواطنين أبرياء وشرفاء من غير سبب؟ إن احنا بنتسلى يعنى؟
الشاب المحتجز: لا، أنا…
المسئول الأمنى: لو انت شايف إن نظامنا بكل إنسانيته ممكن يعمل حاجة زى كده، يبقى أحنا معانا حق فى القبض عليك حتى لو ما كانش فى أى حاجة تانية.
يصمت الشاب المحتجز.
المسئول الأمنى: طيب، إحنا ممكن ننعش ذاكرتك شويه يا رقم 227 (الرقم المسلسل للشاب المحتجز)… صديقك وجارك، المدعو ديتر بيرماسنز، ارتكب فى 28 سبتمبر جريمة الهروب من الدولة. وإحنا عندنا أكتر من سبب للشك فى أنك ساعدته على الهروب.
الشاب المحتجز: أنا ما عرفش أى حاجة عن الموضوع ده. هو حتى ما قاليش إنه عايز يروح الناحية التانية (ألمانيا الغربية). أنا عرفت من المصنع إنه هرب.
المسئول الأمنى: قولنا بالتفصيل انت عملت إيه يوم 28 سبتمبر.
الشاب المحتجز: أنا سجلت كل حاجة فى المحضر اللى فات.
المسئول الأمنى (ببرود): قول تانى.
الشاب المحتجز (وكأنه يقرأ نصا ملقنا بصوت جهورى): كنت مع ولادى فى حديقة تربتو العامة، عند النصب التذكارى. واتقابلنا مع زميلى القديم من أيام المدرسة ماكس كيرشنر. وبعدين روحنا عنده البيت وسمعنا موسيقى لغاية ما الدنيا ليلت. هو عنده تليفون وتقدر تتكلم معاه، هيأكدلك كل اللى قولته. تحب تتكلم معاه؟ أنا حافظ رقمه.
ينتهى المشهد عند كلمات الشاب المحتجز الأخيرة، ثم يظهر المسئول الأمنى فى قاعة دراسية ومعه مجموعة من شباب الضباط المنضمين حديثا إلى الأجهزة الأمنية وقبل أن يستمعوا جميعا إلى تسجيل صوتى لتحقيقه مع الشاب المحتجز يرتفع صوت المسئول الأمنى قائلا: أعداء نظامنا مغرورون جدا، ما تنسوش ده!
•••
متن أول/ فى نظامنا نحن «بكل إنسانيته»، تطول انتهاكات الحقوق والحريات اعتقالا وسجنا واحتجازا وقمعا وتعديا على الحياة الخاصة وعلى فرص التعليم والعمل والمساواة والسعادة مصريات ومصريين يطلبون الديمقراطية وحكم القانون ويرفضون تجديد دماء حكم الفرد وفرض الرأى الواحد والصوت الواحد ويقاومون بسلمية تهجير المواطن من المجال العام، يفعلون ذلك بحثا عن دولة وطنية عادلة وأملا فى مجتمع متسامح ومتقدم.
فى نظامنا نحن «بكل إنسانيته»، تحشد طاقات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية لتعقب المعارضين / أعداء النظام المغرورين ويمارس التنصت / التجسس عليهم ويعصف بالضمانات القانونية لحقوقهم وحرياتهم، وحين لا تجد «الأجهزة» من «جرم» إلا طلب الديمقراطية بسلمية والتعبير العلنى عن الرأى توظف قوائم الاتهامات الجاهزة /المعدة سلفا لتمرير الانتهاكات وإدارة المحاكمات وتوجه «الأذرع الإعلامية» العامة والخاصة لتخوينهم وتشويههم.
فى نظامنا نحن «بكل إنسانيته»، يسعى الحكم عبر الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والأذرع الإعلامية لتخليق شعور عام بين الناس بخطر «الأعداء والمتآمرين والمتربصين» وبضرورة الخوف من «مخططاتهم الإجرامية» وتهديدها «لوجود الدولة والمجتمع» ثم يستخدم ذلك فى الترويج لحتمية الدعم الشعبى الحاكم الفرد وقبول قاعدة «لا صوت يعلو» الديكتاتورية، إلا أن بارانويا الخطر والخوف المخلقة هذه ترتد اليوم بسرعة إلى الحكم وأجهزته وأذرعه وستجعلهم فى التحليل الأخير لا يرون فى عموم المواطنات والمواطنين إلا أعداء ومتآمرين متربصين محتملين يتعين أيضا انتهاك حقوقهم وحرياتهم وقمعهم – كما الشاب المحتجز الخاضع لتحقيق مسئول أمن الدولة فى ألمانيا الشرقية السابقة، وكشخصيات المواطنين المعتقلين وضحايا الانتهاكات العشوائية لحقوق الإنسان التى تناولتها أفلام روائية مصرية كثيرة.
•••
افتتاحية ثانية / حوار بين سرحان البحيرى وعامر وجدى، رواية ميرامار، الأديب نجيب محفوظ، نشرت فى 1967 /
وأراد عامر وجدى أن يجاملنى فقال:
يسرنى أنك من رجال الاقتصاد، إن الدولة اليوم تعتمد أول ما تعتمد على الاقتصاديين والمهندسين…
تذكرت على بكير فلم أهنأ بالثناء. وعاد العجوز يقول:
على أيامنا كان جل اعتمادها على بلاغة البلغاء!
ضحكت هازئا متوهما أنى بذلك أجارى رأيه غير أنه استاء فيما بدا فأدركت أنه لم يكن ينتقد، ولكنه كان يؤرخ. وراح يقول مدافعا عن جيله:
يا بنى. كان هدفنا إيقاظ الشعوب، والشعوب تستيقظ بالكلمات، لا بالمهندسين ولا بالاقتصاديين!
وسرعان ما تراجعت قائلا فى اعتذار:
لو لم يقم جيلكم بواجبه لما تحقق لجيلنا وجود!
وظل طلبة مرزوق ملازما الصمت.
•••
متن ثانى / هناك خط مستقيم يربط بين بارانويا الخطر والخوف التى تخلقها منظومة الحكم / السلطة الراهنة فى مصر وتعول عليها فى تمرير انتهاكات الحقوق والحريات والإبقاء على مستويات مرتفعة من الدعم الشعبى للحاكم الفرد وبين الإعلان عن «مشروعات وطنية عملاقة» وإطلاق وعود التقدم الشامل واجتذاب علماء وخبراء ومتخصصين فى قطاعات اقتصادية واجتماعية مختلفة وموضعتهم فى مجالس استشارية على مقربة من الحكم والحاكم.
فإذا كانت بارانويا الخطر والخوف تستدعى فى وجدان الناس – وبمعزل عن حظوظهم من المعرفة والتعليم وعن أوضاعهم المعيشية وخبراتهم المهنية – القلق الفطرى (أى الذى جبلت عليه الطبيعة البشرية) من كوارث قد تحل بالفرد / الأسرة / الجماعة / المجتمع أو من مكائد تدبر لهم «فى الخفاء» وتجدد ذاكرة التعلق الطفولى ببطل منقذ / مخلص / حامى يعهد إليه وحده بمهمة الحفاظ على الوجود والبقاء – ذلك التعلق الطفولى الذى لم تبرأ منه الطبيعة البشرية بالرغم من السجل التاريخى شديد السلبية للأبطال المنقذين، فإن المزج بينها وبين الصياغة العلنية لوعود التقدم والنهوض والترويج لها بين الناس والربط فى محيط الحكم والحاكم الفرد بين حضور الأجهزة الرسمية المعنية بمواجهة «الأخطار» وبالقضاء على من «فى الخفاء» يعادون / يتآمرون / يتربصون وبين وجود مجالس / هيئات / فرق متخصصين مهمتها «المشورة والمعاونة» فى إدارة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية يحقق للحكم وللحاكم الكثير من «الفوائد» الإضافية. فأعضاء المجالس والهيئات والفرق هذه هم الذين توكل إليهم مهمة مخاطبة الرأى العام، ليس ببلاغة البلغاء بل خطاب يستند إلى المفردات والمضامين «العلمية» ويعتاش على «خبرات» الخبراء والمتخصصين لاكتساب مصداقية شعبية بأن التقدم على الطريق / أن رؤية الحاكم جلية وثاقبة / أن علينا جميعا الوقوف بجانبه لكى ننقذ وجودنا وندافع عن بقائنا ولكى ننطلق إلى آفاق جديدة / هكذا يتحدث العلماء والخبراء والمتخصصون / هكذا على الناس أن توقن وتؤيد وتنتظر دون تململ ودون معارضة، وبالقطع دون تذكر للسجل السلبى للاعتماد على «الاقتصاديين والمهندسين» ولتجاهل أهمية «الكلمة» فى إيقاظ الشعوب ودفعها للأخذ بالأسباب الفعلية للنهوض – الكلمة بمعانيها الإيجابية التى يشير إليها نجيب محفوظ فى الاقتباس السابق من رواية ميرامار.
•••
وبذلك تكتمل سيطرة منظومة الحكم / السلطة وتتماسك حلقات إخضاعها للناس الذين يتقاذفون بين بارانويا الخطر والخوف وبين الإعلان عن المشروعات الوطنية العملاقة وإطلاق وعود التقدم وتصريحات أعضاء مجالس العلماء والخبراء والمتخصصين، وتتجاهل حقيقة أن بارانويا الخطر والخوف تفقد فاعليتها الشعبية سريعا وأن الكلمة الغائبة أى الرأى الحر الغائب والعقلانية الضائعة والإنسانية التى تدمر والسياسة التى تتواصل إماتتها منذ خمسينيات القرن العشرين ستحول بين المشروعات والوعود والتصريحات وبين بلوغ التقدم المنشود والنهوض الذى تستحقه مصر.