عمرو حمزاوى يكتب | نماذج مصرية.. زاد للصبر وللتفاؤل
بعيدا عن القاهرة، بعيدا عن سياسة ماتت وعن نقاش عام وإعلامى زائف، تطل علينا وفى جنبات مصر المتنوعة نماذج مبهرة لمصريات ولمصريين يقهرون قسوة الظروف ويحفرون بأياديهم نجاحات حقيقية تحافظ لمجتمعنا على بعض من إنسانيته وشىء من توازنه وقدر من الاعتدال وتقدم للمخلصين لحلم الديمقراطية والتقدم والعدل الكثير من زاد الصبر على الحاضر والتفاؤل بالمستقبل.المكان: مدينة سفاجا، ساحل البحر الأحمر.التاريخ: الأسبوع الأول من فبراير ٢٠١٤.السبب: إجازة أسرية مع ولدى لؤى ونوح اللذين قدما إلى مصر فى فترة العطلة الشتوية للمدارس فى برلين (ألمانيا) لكى أتمكن من رؤيتهما وقررنا أن نبتعد عن القاهرة وضوضائها التى لا تنتهى ونذهب إلى ساحل البحر الأحمر.السياق: خلال الإجازة تعرفنا على بعض المقيمين فى مدينة سفاجا وبعض زوارها وأمضينا أوقاتا معهم، وقاربت الحوارات التى دارت بيننا وبين ظروف حياتهم وعملهم وخبراتهم. وكان هدفى من هذه الحوارات أن يكتشف ولداى، وهما المقيمان ببرلين، أن مصر ليست فقط التفجيرات الإرهابية وأعمال العنف التى تكتب عنها الصحف الألمانية وتحذر بسببها الخارجية الألمانية مواطنيها (لؤى ونوح يحملان الجنسية المصرية والألمانية) من السفر إليها، وليست فقط متاعب السياسة والإعلام التى يعانى منها والدهما أو الكلفة التى يتحملها اليوم للثبات على الموقف والدفاع عن المبدأ. وكان هدفى أن لا أستسلم لوضعية «الطريد» أو «المغضوب عليه شعبيا» التى يضغط لإنتاجها ولفرضها على إفك التخوين والتشويه وأبواقه الكثيرة الجاهلة التى يطغى اليوم حضورها العام والإعلامى. وكان هدفى أن يدرك ولداى وأنشط أنا ذاكرة إدراكى أن مصر الحقيقية، البعيدة عن الإرهاب والعنف ومتاعب السياسة وضوضاء وصخب العاصمة، رائعة الإنسانية وبهية الجمال بأهلها.<<<نسرين: أنهت دراستها الجامعية فى أسيوط ودفعها رفض نمط الحياة التقليدى ومحدودية فرص العمل فى محيطها المباشر إلى القدوم إلى البحر الأحمر فى ٢٠٠٩. نجحت، وهى لم تكن لا من خريجات مدارس اللغات ولا من طالبات الجامعات الخاصة، فى إتقان اللغات الإنجليزية والألمانية والروسية وأسست شركة صغيرة للسياحة الاستشفائية حول مدينة سفاجا المشهورة برمالها الجافة (تساعد الرمال الجافة على التخلص من أمراض الرويما المختلفة). وعلى الرغم من التراجع الشديد فى أعداد السائحين خلال السنوات الثلاث الماضية، حافظت نسرين على شركتها وتمكنت بجودة الخدمات التى تقدمها من اجتذاب بعض كبار السن من الأمريكيين والألمان والإيطاليين للتواجد على نحو دورى فى سفاجا.أحمد: أنهى دراسته الجامعية فى محافظة بنى سويف وغادرها فى ٢٠٠٧ إلى الغردقة حيث عمل كفرد «خدمة وترفيه» فى فنادق مختلفة. قرر بعد أن رزق بطفلة أن يبتعد عن الغردقة ويأتى إلى سفاجا (حيث تكاليف المعيشة أقل بوضوح) ثم أن يتعلم الرياضات المائية، تحديدا الغطس، بحثا عن الرزق. فى ٢٠١١، حصل على ترخيص كمعلم غطس وأسس مركز لتعليم الرياضات المائية وتعاقد مع عدد من شركات السياحة المصرية والأمريكية والأوروبية. مع تراجع أعداد السائحين خلال السنوات الماضية، اتجه أحمد إلى الاهتمام بالبيئة البحرية، وكون مع مجموعة من الغطاسين المصريين مبادرة للحفاظ على الشعب المرجانية وعلى طبيعة الجزر الصغيرة المنتشرة على امتداد ساحل البحر الأحمر المصرى، ودون انتظار للفعل الحكومى بدأت المبادرة فى الاضطلاع بأعمال كثيرة (كالتنظيف الدورى للجزر من القمامة التى تتركها مجموعات السائحين أو حصر المناطق المضارة فى الشعب المرجانية وتصويرها والتواصل مع مبادرات بيئية عالمية للمساعدة فى علاجها. يتحايل أحمد وأسرته (الزوجة والابنة) على محدودية الدخل بضغط النفقات (التخلى على سبيل المثال) عن محل إقامة اضافى كان للأسرة فى القاهرة) وبالحياة على نحو متناغم مع الطبيعة المحيطة بسفاجا (مأكلا وملبسا ومسكنا).خالد: عامل مصرى من محافظة الأقصر، دفعه شظف الحياة فى ٢٠١٢ من محافظات الصعيد النهرية إلى البحر الأحمر. كنسرين وأحمد، أتقن أكثر من لغة أجنبية (وهو لم يحصل على شهادة إنهاء التعليم الثانوى) وبحث عن الرزق فى الرياضات المائية. وحين لم يوفق كثيرا، استغل موهبته فى الأعمال اليدوية والخشبية وشرع فى عرض منتجه على إدارات الفنادق ومجموعات السائحين ثم نجح فى استئجار صالة للعرض الدائم (والبعيد عن عمولات الفنادق وشركات السياحة المبالغ لها) فى مدينة سفاجا وجاء بالزوجة والأولاد إلى البحر الأحمر بعد أن كان قد تركهم فى الأقصر للتوفير وضغط النفقات.الدكتور عادل: أستاذ الهندسة بجامعة أسيوط، وتصادف وجوده مع أسرته فى سفاجا خلال الأسبوع الأول من شهر فبراير الجارى. قدم إلى سفاجا لقضاء إجازة قصيرة، ودللت أقواله وأفعاله على إنسانية مبهرة ملتزمة دينيا باعتدال ومنفتحة على الآخر الدينى (الأقباط) والآخر الغريب (غير المصريين) بتسامح وعلى نظرة إيجابية للعلاقة بين المرأة والرجل جوهرها المساواة والاحترام المتبادل. لم يختلف الدكتور عادل عن نسرين وأحمد وخالد فى التعبير عن رفضهم القاطع للوضعية البائسة للسياسة وللنقاش العام والإعلامى فى مصر، ولم يبتعد عنهم فى تسجيل البحث عن بديل لا يدفع بمصر لا إلى الفاشية الدينية ولا إلى الفاشية العسكرية. وعكست حوارات «الدكتور»، وهو يصنف نفسه كمؤمن بحرية التعبير عن الفكر والرأى وبضرورة صون حقوق الإنسان والحيلولة دون تجدد انتهاكاتها وله نشاط أكاديمى واجتماعى متميز فى أسيوط، قناعة بأن الرغبة الشعبية فى الاستقرار والسلم الأهلى وتحسين الأوضاع المعيشية تسبق الاهتمام بقضايا الديمقراطية وأن مسئولية النخب إن أرادت الخروج من لحظة الإخفاق الراهنة هى التعامل مع هذه الرغبة الشعبية بجدية ومنع توظيفها سلطويا لبناء القمع وصناعة الفرعون والعصف بالحقوق والحريات.<<<الشخصيات الأربعة السابقة (والتى غيرت أسماءها احتراما للخصوصية) لا تنتظر من العاصمة ولا من السياسة أو الإعلام إيجابيات حقيقية ولا تتوقع الاهتمام بشئون حياتهم أو ظروفهم المعيشية. الشخصيات الأربعة ماضية فى دربها، وتحميها النجاحات اليومية والصغيرة التى تبلغها من التخلى عن اعتدالها وتسامحها وانفتاحها على الآخر. الشخصيات الأربعة لم ينطل عليها إفك التخوين والتشويه، ولم تتورط فى قبول خطاب الكراهية والعقاب الجماعى، ولم تتوقف عن صناعة نماذج مبهرة للحياة وللحب وللجمال وللإنسانية فى مصر الحقيقية التى اكتشف ولداى جانبا منها ونشطت أنا ذاكرة عشقى لها إلى حد التماهى واستزدت مجددا للصبر على الحاضر وللتفاؤل بالمستقبل.