عمرو حمزاوي يكتب | القمع غير المباشر حين يغتال العقل
بجانب مساعيها لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وخطابها الشعبوى المستند إلى ميثولوجيا البطل المنقذ واستدعاء حكم الفرد كسبيل وحيد للنجاة بالدولة والمجتمع من مؤامرات تحاك لهما وأخطار تتهددهما، تدير منظومة الحكم/ السلطة مصر بمزيج من استراتيجيات القمع المباشر وغير المباشر.
وبينما يرتب القمع المباشر انتهاكات الحقوق والحريات المتكررة ويهجر المواطن من المجال العام حين يتمسك بالتعبير الحر عن مبادئه وقناعاته ويعمل ضميره وعقله ويرفض الانسياق وراء الصوت الواحد والرأى الواحد والموقف الواحد، يحكم القمع غير المباشر حلقات الاستبداد ويقدم مبررات متتالية لغياب الديمقراطية ويمتهن ضمير وعقل المواطن عبر تشويه الأنساق القيمية وتزييف الوعى.
وللقمع غير المباشر استراتيجيات معلومة، طورتها واختبرتها منظومات الحكم/ السلطة غير الديمقراطية فى فترات زمنية مختلفة وفى دول ومجتمعات متعددة، ولم تكن مصر منذ خمسينيات القرن الماضى وإلى يومنا هذا (وباستثناءات محدودة ومتقطعة زمنيا) إلا ساحة للتطوير وللاختبار.
1ــ صناعة الخوف من أعداء فى الداخل والخارج تضفى عليهم سمات الكائنات الأسطورية التى لا سبيل للناس للنجاة من دمويتهم وتدميرهم وعنفهم دون «التأييد الأحادي» للبطل المنقذ ودون الاستعداد للتضحية بحقوقهم وحرياتهم فى مقابل الأمن والخبز.
2ــ تشويه الأنساق القيمية للناس ومعايير الحكم الأخلاقى والعقلانى على الأمور بحيث يستحيل زيفا كل من انتهاك الحقوق والحريات لمعارضى منظومة الحكم/ السلطة وتجاهل ضمانات المساواة أمام القانون والتورط الرسمى فى إلحاق الظلم بالمواطنات والمواطنين واستخدام القوة المفرطة إزاءهم إلى ضرورات «لحماية الدولة والمجتمع»، وتفقد مفاهيم السلم الأهلى والعيش المشترك والاعتراف بحق الجميع فى الانتماء للوطن وفى الحياة على أرضه مضامينها الإيجابية.
3ــ السعى إلى تزييف الوعى العام والمخيلة الجماعية بشأن المراحل أو اللحظات التى طلبت بها قطاعات شعبية واسعة التغيير باتجاه الديمقراطية وحكم القانون ــ كما تزيف ثورة يناير 2011 اﻵن، أو بشأن الأصوات والمجموعات التى تبنت أجندة الديمقراطية والحقوق والحريات بهدف القضاء على الانطباعات الإيجابية التى علقت بأذهان الناس عنهم وتحويلها إلى صور نمطية سلبية ــ حملات التخوين المستمرة التى تحتل المساحات الأوسع فى الإعلام المصرى.
على المدى الزمنى القصير، تحكم استراتيجيات القمع غير المباشر هذه حلقات الاستبداد وتبرر شعبيا غياب الديمقراطية وحكم القانون فى مصر اليوم، ولذلك تفرح بها منظومات الحكم/ السلطة وتواصل توظيفها. أما على المدى الزمنى المتوسط، فحصادها هو فقدان القدرة الموضوعية والجماعية على التعامل مع الأخطار والتهديدات بعد أن استحالت إلى كائنات أسطورية وهجر الناس من المجال العام الذى ترك مع أحوال الدولة والمجتمع للفعل الانفرادى للبطل المنقذ. حصادها أيضا هو إفقاد الناس القدرة على تحقيق السلم الأهلى وممارسة العيش المشترك بعد ما اختزل المجتمع واختزلت قضاياه المركزية فى ثنائيات مع وضد. حصادها أيضا هو اغتيال العقل النقدى والوعى المستند إلى معلومات وحقائق وقيم الإنسانية وتشويه المخيلة الجماعية. إلا أن كل ذلك، على المدى الزمنى البعيد، مآله الانهيار وتحرر الناس من الخوف والتشويه واستعادتهم مجددا للعقل وللقدرة على طلب الديمقراطية وممارسة العيش المشترك.
غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.