للأسف الشديد لم نستطع فى مصر منذ عدة سنوات أخذ فرصة لالتقاط الأنفاس، والوقوف قليلا لمراجعة الحالة المصرية من مختلف الزوايا، فالأحداث تتلاحق وتطارد الجميع، ونستطيع أن نقول إننا نعيش دوما تحت سياسة «يوم بيوم» فى شتى مناحى الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، وهى سياسة لا تسمح بالتخطيط أو مراجعة القرارات والمواقف وتقييم الحالة التى وصلنا إليها، وطبعا يمكن أن نلتمس الأعذار للجميع ونتفهم انغماسهم فى حلقات إنجاز المهام العاجلة، إلا أننا أيضا يمكن أن نكتشف بسهولة، إننا أصبحنا عاجزين عن القيام بالكثير من الأعمال، بما فى ذلك الأعمال التى كنا نبرع فيها، ونتفوق على كثيرين ممن حاولوا منافستنا، إن القراءة السريعة العابرة، غير المتعمقة، تؤكد أننا انشغلنا بالهوامش، وتركنا متون القضايا الكبرى، لتأكلها المشاكل والأزمات، حتى صار بعضها مثل عصا سليمان تبدو واقفة شامخة، لكنها فى واقع الأمر قد تآكلت تماما من داخلها وستنهار مع أول تكئة حتى ولو عفوية.
هناك مظاهر عامة يعلمها الجميع، ويلمحها الكافة، ويعانى منها البعض، مثل عجزنا التام تجاه إقناع أسواق العمل الإقليمية بأهمية خريجينا وقدراتهم المهنية، فالطبيب المصرى (وإلى حد ما المهندسين والمدرسين) لم يعد المصنف الأول أو المرغوب الدائم، بل صار كونه خريج الجامعات المصرية مانعا حقيقيا للعثور على فرصة عمل، وقد قال لى أحد الأطباء مؤخرا إن درجة الدكتوراه من جامعات كبرى مثل القاهرة وعين شمس والاسكندرية، تكفى بالكاد للحصول على وظيفة إخصائى، وفى الغالب يذهب حامل الدكتوراه إلى وظيفة ممارس عام، وهو أمر مخزى ويفهمه الأطباء جيدا، وحتى هذه اللحظة لم تتدخل الدولة أو نخبتها المعنية بشئون التعليم عند هذه المأساة، أو حتى التفكير فى مواجهة هذا العجز الذى يتنامى يوما بعد آخر، والذى يذهب بتعليمنا الجامعى إلى مكانة تخرجنا من جميع التصنيفات الدولية.
ومن الأمور التى تؤكد عجزنا العام فى إنجاز الأعمال، أو حتى الحفاظ على المكانة التى حصلنا عليها، والتى أعتبرها من الأمور الصادمة بحق، هو عجزنا حتى أن نسلى أنفسنا، فمنذ عدة سنوات ونحن نتحدث من دون حرج عن مسلسلات تركية، ونترك لها جميع المساحات التى كنا قد استطعنا احتكارها لما يقرب من مائة عام، وصار المسلسل التركى متفوقا على ما نقدمه من دراما، وأصبح نجوم هذه المسلسلات ونجماتها، هم المفضلون عند جماهيرنا، وصارت «حكاية فاطمة» على سبيل المثال، هى الحكاية التى تشغل بال الكثيرين فى المناقشات التى تدور فى فضاء مواقع التواصل الاجتماعى، والخطورة هنا، أننا فقدنا سيطرة ثقافية على جماهيرنا، وبالتالى صار لتركيا فى مصر سلع وبضائع وشركات مقاولات ومدارس، بعدما كان العكس هو الحاصل، حيث كانت أعمالنا الفنية هى الطريق الذى منح لنا خصوصية اقتصادية واجتماعية فى دول الإقليم، وهو ما كنا نسميه القوة الناعمة، وها هى القوة الناعمة بدأت تتسرب من بين أصابعنا
المصدر:جريدة الشروق