لا جدال أن انتشار فكر وثقافة حقوق الإنسان أمر مهم وضرورى، وكانت البداية الحقيقية فى طريق البحث عن الحرية وسط استبداد كان طبيعيا وعاديا وغير قابل للنقاش فى الحياة السياسية المصرية، وأذكر جيدا حوارا مطولا مع المناضل المصرى الراحل فتحى رضوان، الذى بدأ هذا الطريق فى النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضى، حيث استطاع مع عدد من المثقفين والمناضلين العرب فى تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، والتى لم يسترح لها النظام المصرى فى ذلك الوقت، فغالبية هذه الاجتماعات كانت تقطع عنها الكهرباء لتعطيلها لإرسال موقف النظام المصرى من المنظمة وأنشطتها، حتى أن المنظمة لم تجد عاصمة عربية واحدة ترحب بعقد اجتماعاتها بها، واضطر المسئولون عنها لعقد اجتماعهم التأسيسى فى قبرص، وأذكر من هؤلاء أديب الجادر من العراق وهيثم مناع من سوريا وسعاد الصباح من الكويت، كانوا يعتقدون أن معركة نشر ثقافة حقوق الإنسان معركة فاصلة فى مواجهة الاستبداد فى العالم العربى، إلى جانب أن عمليات التضييق على العمل السياسى دفعهم لذلك.
فى ذلك الحوار مع فتحى رضوان، وهو واحد من رموز الوطنية المصرية، وأحد أصلب رجالها، كشف الرجل عن التحدى الحقيقى لعمل المنظمة، الذى لخصه فى فكرة حياد من يعمل وينشط فى هذا المجال، كان الرجل يخاف من خلط السياسة بحقوق الإنسان، حيث بدى من الوهلة الأولى أن الذين جاءوا للمشاركة فى أعمال المنظمة من الساسة وأبناء الحركات السياسية، خاصة اليسارية منها، وكانت مصر تشهد موجات اعتقال شباب من تيارات إسلامية، كانوا على خلافات عميقة مع أبناء التيارات اليسارية، حدث ذلك فى مختلف الجامعات المصرية، خلاف كان يتحول دائما إلى عراك واشتباك، كان فتحى رضوان يرى خطورة الخلط فى مرحلة مبكرة، وكان يرى أن نشطاء حقوق الإنسان عليهم أن يلتزموا بالحياد تجاه الضحايا، عليهم فقط أن يراقبوا الأفعال المخالفة لمواثيق حقوق الإنسان بغض النظر عن الانتماء السياسى للضحية، لذا كان الرجل يفرق بين «السياسى» و«الحقوقى» وقتها كانت كلمة مثل «حقوقى» غريبة بعض الشىء.
وبعد مرور ما يقرب من ثلاثين عاما، على تخوفات فتحى رضوان، تبدو تخوفات الرجل ماثلة حتى يومنا هذا، فالبعض ــ أحسبه قليل ــ ممن يمارسون مهمة حقوق الإنسان، ويطلق عليهم حقوقيون، لا يلتزمون الحياد، وباتوا أقرب للنشطاء السياسيين، حتى أن الحكومة نفسها وقوى سياسية بعينها أسست منظمات حقوق إنسان تعمل لصالحها، أو تدعم منظمات لخدمة أغراضها وأهدافها الخاصة، وهو ما يؤثر على الفكرة الحقوقية من أساسها، لذا لا يبدو مدهشا أن نرى مواقف متباينة وأحيانا متعاكسة لمنظمة ما على ذات الفعل، ودائما يكون الفارق انتماءات أصحاب الفعل، وبصراحة شديدة أن هذه النوعية من الممارسات هزت من صورة الحقوقيين، وشككت فى مصداقية بعضهم، وفى ظل تصاعد تحول الحقوقيين إلى نشطاء سياسيين (أو رجوعهم لما كانوا يريدون حقا القيام به فى المجال السياسى)، باتت الفكرة الحقوقية مهددة، وهذا بالطبع لا ينسحب على كل المنظمات، فهناك منظمات تعمل بجدية وحيادية رغم صعوبة الظروف بسبب التضييقات القانونية والمالية، وللأسف الشديد الخاسر الوحيد من هذا الخلط، هو «الإنسان» المصرى «وحقوقه» التى صارت مهدرة، دون أن تجد من يدافع عنها حقا، وأحسب أيضا أن الدولة ستكون بين الخاسرين لأن العمل الحقوقى الحيادى والحر يخدم فى نهاية الأمر، سيادة القانون وهو مصدر الهيبة الحقيقى لأى دولة.