تتحدث حكومة إبراهيم محلب بشجاعة تحسد عليها بشأن تحرير أسعار الطاقة، وضبط الإنفاق على الدعم، فى ظل شعار واحد واضح أن الحل يبدأ من هنا، خصوصا وسط قناعة أعضاء الحكومة، بأن الدعم لا يصل لمستحقيه، مثلهم فى ذلك مثل جميع الحكومات التى مرت على مصر خلال الأعوام العشرين الأخيرة، والذين تحدثوا طويلا عن مواجهة الدعم المفقود، لكن الدعم ظل مفقودا ومسروقا دون أن تتحسن حالة الفقر فى هذا البلد، الملمح الوحيد المختلف أن تصريحات حكومة محلب تبدو جادة هذه المرة مع صعود أزمة الطاقة لذروة غير مسبوقة لا تهدد فقط الموازنة العامة للدولة، بل تتجاوز ذلك فى عدم توفرها وهو ما يظهر جليا للمواطن فيما تطلق عليه وزارة الكهرباء «تخفيف الأحمال» مع تصريحات لا تنتهى عن ظلام متوقع فى الصيف المقبل، وتصاعد لصرخات أصحاب المصانع، خصوصا المصانع كثيفة الطاقة، وأن الصناعة والاستثمار مهددان فى هذا البلد، ويمشى بجوار ذلك، حوار أقل حدة عن منظومة دعم الخبز، والذى بدا واضحا أن الهدر فى دعمه بدأ يتوقف، وأن الحكومة الحالية تجرب حلا ما، لم تظهر عليه اعتراضات واضحة حتى الآن.
وقبل أن نخوض فى تفاصيل ما تفكر فيه حكومة إبراهيم محلب، وقبل أن يتسع التقاش العام الذى بدا أنه متقبل لفكرة علاج دعم الطاقة، علينا أن نعرف جميعا أن الدعم الذى لا يذهب إلى مستحقيه، هو الذى يسند غالبية الأسر الفقيرة، ويساعدهم على استمرار الحياة، حتى إن إحدى المنظمات الدولية المعنية بالشئون الاقتصادية أشارت فى تقرير لها عام ٢٠١١، إلى أن دعم الخبز ساعد كثيرا على ثبات مستوى المعيشة عند غالبية الأسر الفقيرة، صحيح أن ذلك لا ينفى سرقة الدعم أو إهدار جزء، ولو كبيرا منه، لصالح فئات لا تستحقه، لكنه كان منقذا لفئات كثيرة تعانى شظف العيش بالفعل، وبصراحة لا أعرف، ولا أعتقد أن أحدا يعرف على وجه الدقة، كيف يمكن أن يؤثر التحرير الجزئى لأسعار الطاقة على المستويات المعيشية للأسر الفقيرة، خصوصا أن المحروقات بشكل عام، تستخدم فى عمليات نقل السلع، وفى الإنتاج الزراعى، وفى معظم عمليات الانتاج البسيطة، وليس فقط فى الاستخدام المنزلى، وهو ما سيؤثر بشكل واسع على المستوى العام لأسعار السلع والخدمات التى يعتمد عليها الفقراء بشكل كلى فى تفاصيل حياتهم والتى تضمن لهم حد الكفاف.
أعلم جيدا أن جزءا كبيرا من حل المشكل الاقتصادى لمصر يبدأ من مواجهة الدعم، ودعم الطاقة على وجه الخصوص، لكنى أعلم أيضا أن السير فى أى اتجاه لحل هذه الأزمة يجب أن يمر أولا عبر سياسات اجتماعية شديدة الوضوح بحماية الفقراء من الآثار الجانبية لهذه الحلول، والتى غالبا ستكون مدمرة للحالة الساكنة التى يعيشون فيها وسط توفر سلعهم الأساسية بشكل أو بآخر، بما يعينهم على الطعام والشراب والعمل والانتقال، وأن هذه السياسات الاجتماعية تكون مضمونة لتوفير بديل حقيقى لمواجهة أى غلاء فى الأسعار، فهؤلاء الفقراء يعيشون فعلا على الحافة، وأى انحراف فى تقدير أى سياسة سيفجر المشكلة فى وجه الجميع وبدون رحمة، ويأخذنا لحالة لا يعلم مداها إلا الله، وهذه السياسات تحديدا لم نسمع عنها حتى هذه اللحظة، أو اتُخِذَتْ بشأنها أية قرارات، وأتمنى أن تكون هذه القرارات سابقة على أى قرار يستهدف تخفيض الدعم، لأن العاقبة ستكون أكبر مما يتوقعها السادة الباحثون المترفون، الذى لا يعرفون فعلا ماذا يموج حقا داخل عوالم الفقر فى مصر الآخذة فى البؤس، والتى لا يصدق ناسها، حتى هذه اللحظة، أن المتحدثون باسم الثورة أو الذين حكموهم باسمها، خدعوهم بعد أن استخدموهم فى صراع على السلطة، لم يدفع أحد تكاليفه مثلما دفعوا هم.. «أرواح أزهقت ودماء سالت وكسرات خبز اختفت»، وذلك تحديدا ليس من قبيل المبالغة التعبيرية أو المحسنات البديعية أو المجازات اللغوية وإنما تقرير لما حدث، وعلى الباغى تدور الدوائر.