مجموعة سعودي القانونية

عمرو خفاجى يكتب | قيمة مصر

عمرو-خفاجى

كان البروفيسور جون بريسكوت، واحد من كبار أساتذة هيئة الإذاعة البريطانية، ومحاضرا لامعا، وكان الرجل مسئولا عن إعادة هيكلة قنوات تليفزيون أوروبا الشرقية بعد هدم جدار برلين، وقبل عدة سنوات كنت أدرس مع الرجل إدارة القنوات التليفزيونية، وعبر عدة أسابيع، كان بريسكوت يتحدث دائما عن أهمية أن يفهم العاملين فى أى شبكة تليفزيونية، قيمة الشبكة التى يعملون بها، وطبعا يسبقهم فى ذلك رئيس الشبكة، وحكى الرجل عن تجاربه فى إعادة تأسيس ٥١ شبكة تليفزيونية فى دول أوروبا الشرقية، وقال بوضوح إن الشبكات التى قادها رجال لا يعرفون قيمة شبكاتهم لم تحقق أى نجاحات تذكر، على العكس تماما حينما يكون الرئيس مدركا وواعيا بقيمة ومكانة شبكته التليفزيونية، حيث يكون النجاح متاحا له وللعاملين معه، كان بريسكوت يحذرنا صراحة من عدم قبول قيادة أى قناة إذا كنا غير مقتنعين بأهميتها أو غير مدركين لقيمتها.

وبالرغم من الفارق الضخم بين مفهوم إدارة قناة أو شبكة تليفزيونية، وبين إدارة دولة، إلا أن القياس يجوز وفقا لبريسكوت، الذى ضرب يومها مثلا بإدارة بلاده، وقال إنه لا يفضل أن يقود بريطانيا رجل لا يعرف قيمة وعظمة بريطانيا، وكشف الرجل عن أن أسوأ فترات مرت على شبكته الغالية (بى بى سى) تلك الفترات التى شهدت رؤساء لم يفهموا قيمة البى بى سى، ثم ضرب المثل أيضا بأسماء بعض رؤساء الوزراء الذين أضروا بريطانيا كثيرا بتقزيمهم لها، رغم حسن نواياهم، ووطنيتهم الفائقة، كل هذا والرجل يحاول ترسيخ هذه النقطة فى أذهاننا حتى ننشر تلك الثقافة بين العاملين معنا إذا ما تولينا المواقع القيادية فى أعمالنا.

ولا أبالغ إذ قلت، إن أحد أهم العقبات التى ساقت مصر لظروفها الرديئة خلال السنوات الثلاث والثلاثين الماضية، إن الذين كانوا يحكمونها لم يقدروا تماما قيمة هذا البلد ومكانته وتاريخيته وحضارته، كانوا يرونها بلدا صغيرا يدير شئونه الداخلية بطلوع الروح، ينكمش داخل حدوده، يخشى أن يمد حضارته وثقافته خارج حدوده، وهو ما انعكس على مواطنيه، الذين تحولوا إلى بؤساء لا يطمحون فى شىء سوى أن تمر الأيام على خير، لا أحلام ولا طموحات، وبالتالى تقزمت دولتهم عبر السنوات الثلاثين، وحينما جاءت الثورة، وتنفسنا هواء مختلفا، تقدم إلى واجهة المشهد من نجح فى العودة بنا سريعا إلى صفوف الدونية والعجز، وطرد من مخيلة الجميع، أننا مازلنا جزءا مهما من حضارة البشرية، صحيح أننا لسنا قمة هذه الحضارة، لكننا أيضا لسنا هامشها، وما نملكه فى اللحظة كثير، لكننا نتجاهله، دون أن نفكر حتى فى مناقشة هذا التجاهل ومحاولة العودة لمكانتنا فى صفوف صناع الحضارة الحديثة، وتطور الإنسانية.

ونحن مقبلون على اختيار رئيس جديد، أتمنى أن تكون الحالة العامة أكثر جرأة فى طلب ذلك من المرشحين، وألا تهمين حالة الخوف من الإرهاب على مزاج وطلبات الناخبين، طبعا لا نهمل أهمية محاربة الإرهاب، لكن محاربته الحقيقية ستكون عبر عودة مصر الحضارية، القوية، ذات القيمة التاريخية، القادرة على صياغة قيمة حالية تعكس قدرة هذا البلد أمام البلدان الكبرى، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بإيماننا أولا بأهمية إدراك قيمتنا، حتى يدرك من سبحكمنا هذا القيمة التى هى السبيل للخروج من كل ما يعرقلنا نحو العودة لمشوار الحضارة، الذى نمتلك الكثير من أسبابه ونقف على ناصيته بالفعل، لكننا لا ندرك ذلك.

 

 

المصدر:الشروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *