على مدد الشوفلا جدال أن الدساتير هى عماد قوانين وأنظمة أى دولة من دول العالم المتقدم، وهى فى الغالب وثيقة الاتفاق الشعبى للعيش المشترك، ولتنظيم شئون حياتهم، ومن هنا تنبع أهمية الدساتير، وخطورة موادها، لكن ذلك لا يمنع أبدا أن نقول إن الدستور مرحلة أساسية وأنه مجرد بداية، ولا يعنى أبدا الدستور الجيد أنه دليل استقامة الحياة القانونية والسياسية فى أى دولة، ويكفى فقط أن نشير إلى دستور ١٩٧١ فى مصر، الذى كان فى وقتها واحدا من الدساتير الممتازة والمتطورة، وكان بحق خطوة عظيمة للأمام، خصوصا إذا ما راجعنا تاريخ الحكم فى البلاد قبل انطلاق هذا الدستور، فقد كان يتضمن أبوابا عظيمة فى الحريات، كانت متفوقة على مثيلاتها فى دساتير أخرى لدولة متقدمة، وقد لا يعرف الكثيرون، على سبيل المثال، أن دستور ١٩٧١ كان ينص على ضرورة إبلاغ أى مواطن بتهمته «فور القبض عليه» بينما كان دستور ٢٠١٢، الذى كانوا يقولون عليه أعظم دساتير العالم، يمنح السلطات القبض على المواطنين دون إبلاغهم بتهمهم لمدة ٢٤ ساعة (غالبا ستزيد هذه المدة فى الدستور المعدل)، طبعا لم تكن مشكلة دستور ١٩٧١ فى مواده أو نصوصه، بل فى تشريعات قوانينه (إلى حد ما) وتطبيق النظام الحاكم للقوانين المنبثقة عنه، التى غيبها نظام السادات تماما، ثم أفسده بتعديلات «الهوانم» التى منحت الرئيس حق الحكم مدى الحياة، ثم أكمل نظام مبارك الاستهانة والاستهتار بهذا الدستور أيضا وخربه بتعديلاته الأخيرة.
ورغم أهمية الدستور ومواده، فالتاريخ يؤكد لنا أنه من الخطأ الاستسلام والركون للراحة بمجرد إقرار الدستور، فالعمل الحقيقى يبدأ بعد إقراره، خاصة فيما يتعلق بتشريع القوانين المكملة له، فمن الممكن أن يكون النص عظيما، ويأتى القانون عاصفا بروح النص ومبرر وجوده، وقد شاهدنا العديد من الوقائع التى فعلت ذلك بدستور ١٩٧١، لذا يصبح البرلمان المقبل فاصلا فى الحياة الدستورية المصرية، وصاحب مهمة ثقيلة وعبء كبير، فى استكمال الوظيفة الدستورية، ويمكن له فعل العكس، بأن يقدم قوانين تتجاوز عيوب صياغات دستورية نتجت بسبب صراعات سياسية سخيفة أثناء إعداد الدستور، وكل ذلك يعنى ان الجميع عليه أن يتعامل بجدية واهتمام أثناء انتخابه لأعضاء البرلمان المقبل، لأنهم بالفعل فى أيديهم الكثير للحفاظ على أى مكتسبات دستورية، وهذا هو ما لا نلمحه حتى الآن، وسيفاجأ الجميع بأن الانتخابات البرلمانية على الأبواب دون أن يكونوا مستعدين لها.
وإذا كانت التشريعات مرحلة هامة وفاصلة ويتحملها البرلمان، تبقى قضية الالتزام بتطبيق النصوص الدستورية وقوانينها المكملة، وهذه بصراحة شديدة مهمة القوى السياسية، والتى كانت تفرط فيها دوما عبر صفقات رخيصة ومنحطة مع النظام القائم، وربما العمل على سيادة القانون والالتزام به، وحده يكفى لإصلاح الحال ومقاومة الاعوجاج لأى نظام كان، وهذا أيضا ما لا نلمحه فى مختلف القوى السياسية الموجودة الآن على الساحة، وتبقى الأمور واضحة لدينا، بأن مصر فى حاجة لنخب جديدة ووجوه جديدة تستطيع احترام دستورها ولا تقايض عليه أنظمة حكم تفكر فى الاستبداد مجددا عبر الصفقات الرخيصة التى احترفت التعاقد عليها مع قوى خائبة وضعيفة لا يمكن أبدا أن تكون جزءا من المستقبل، ويجب ألا نسمح أصلا ان يكون هذا هو مستقبلنا.