هناك بعض الملفات، لا أفهم لماذا لم تلتفت إليها الحكومات المتعاقبة، رغم أهميتها وضخامتها، ومجرد التحرك فى التعامل معها سيحدث تأثيرات اجتماعية هائلة، ولا أبالغ إذ قلت، إن التصدى لبعض هذه الملفات هو ثورة فى حد ذاته، وتقدم مذهل للمجتمع، وفى مقدمة هذه الملفات ما تم الاتفاق على تسميته بملف «العمالة غير المنتظمة» التى تقدرها الدولة نفسها بأكثر من ١٢،٧ مليون عامل، غالبيتهم يعملون فى قطاعات التشييد والبناء وبعض المهن الحرة البسيطة، وغالبية هؤلاء الشغيلة المساكين، خارج أى مظلة تأمينية أو اجتماعية، كما أنه لا توجد لديهم نقابة قوية تدافع عنهم وعن مصالحهم، هناك فقط نقابة روتينية إجبارية لا يتعدى عدد أعضائها ١٨٠ ألف عامل، تقوم فقط بختم الأوراق الرسمية المطلوبة مثل أوراق استخراج الرقم القومى، وبعد الثورة نشأ ما نستطيع أن نطلق عليها نقابة مستقلة، تحاول أن تعمل بجدية، لكن لم ينضم إليها حتى الآن سوى ٢٢ ألف عامل، أى أن الغالبية من عمال هذا القطاع الهائل غائبون عن أى شىء وكل شىء.
ما يحزن فى الأمر، ويغيظ أيضا، أن أصحاب الأعمال والمهن التى تضم هؤلاء العمال، يسددون حصصهم التأمينية وكل ما يطلب منهم بشأن عمالتهم، ولا يعرف أحد أين تذهب هذه الأموال، فالثابت حتى الآن أن لا أحد يعرف عاملا واحدا تلقى علاجا أو حصل على إعانة من هذه الأموال، والتى يقدرها حسنى أحمد حسنى رئيس النقابة المستقلة بأكثر من ٧٦ مليار جنيه، والرجل كان من قبل عضو المجلس القومى للتأمينيات ويبدو أنه يعرف، فى حين أن أحد أعضاء مجلس اتحاد المقاولون يؤكد أن هذه الأموال تقترب من نصف التريليون، فالدولة تحصل على هذه الأموال من منتصف الخمسينيات، أى منذ ما يقرب من ستين عاما دون أن تنفق شيئا على أصحاب هذه الأموال، وأيا كان التقدير، فهذا يعنى أن هذه المشكلة تملك من الأموال ما يساعد أى مسئول فى بدء حل فورى لتحسين أوضاع الملايين من المواطنين البسطاء.
ما يزعج حقا فى هذا الملف المؤلم، كما ذكر نقابيون ومقاولون، أن القانون يخصم من جملة ما يحصل عليه المقاولون ٦ فى الألف من جملة أعمالهم لصالح عمالهم، لكن الحقيقة تكشف أن هذه الخصومات، بنص القانون يذهب أكثر من نصفها (٥٥ ٪) مكافآت لكبار المسئولين والموظفين فى الدولة، و٥٪ تخصص كاحتياطى، والباقى (٤٠ ٪) هو المخصص للعمال والذى لا يصلهم أصلا ولا يعرف أحد أين تذهب هذه الأموال، وبصراحة القانون فى حد ذاته بهذه التوزيعات يكشف خللا جللا، لا يمكن تصوره ولا قبوله، وأيضا ولا استمراره، خاصة أننا نتحدث عن أحوال ما يقرب من ١٣ مليون مواطن، وفى أقل التقديرات يعول كل منهم اثنين آخرين، أى أننا نتحدث عن نصف الشعب تقريبا، فكيف تسمح الحكومة بإهمال مثل هذا الملف ولماذا لا تتدخل فورا، خاصة أن رئيسها وهب عمره للتشييد والبناء ويعرف أوضاع هؤلاء العمال جيدا حيث عاش سنى عمره بينهم.. بصراحة أكثر عدم التحرك فى الملف جريمة لا تقل عن جريمة القانون الذى يمنح الموظفين ما يستحقه العمال بعرقهم. فعلا لم يعد الصمت ممكنا.