ظهر فى شارعنا منذ شهور جرو صغير حديث الولادة، كنت أتابعه وهو يحاول أن يتعلم النباح مثل بقية بنى جنسه، فيخرج صوته مبحوحا متقطعا بشكل يثير ضحك كل من يتخذ من شارعنا مستقرا له (السايس.. البواب.. صاحب الكشك.. عامل المقهى)، يغيب الجرو الصغير ثم يظهر فجأة بـ«هُليلة» فى الشارع جعلت الجميع يقعون فى غرامه ويسألون عنه إن اختفى.
مجرد كلب صغير لكن أهم ما يميزه هو حبه للحياة، لا أبالغ إن قلت إنه جرو بشوش مرح، يسير إلى جوار البنات صامتا رافعا رأسه الصغيرة باتجاههن، أراقبهن وهن يتحاشينه ويسرعن الخطى ثم سرعان ما يسبقهن الجرو بخطوة ثم يتشقلب أمامهن على أسفلت الشارع فيثير ضحكهن وتعاطفهن، فيسمحن له بأن يكون فى الصحبة حتى نهاية الشارع. يعرف حدود الشارع جيدا، فلم يحدث أن خرج منها. يستقبل المارين الغرباء بنباحه الكوميدى وشقلبته وحبه للحياة حتى يغادروا الحدود بسلام مؤتنسين بالتشريفة التى يقدمها لهم.
حاول أهل الشارع كثيرا أن يطعموه، وضعوا له سلطانية اللبن وعظام الدجاج وكسر الخبز لكنه لم يكن يقترب أبدا منهم، إلى أن رأيناه يوما يخرج من تحت إحدى السيارات حاملا فى فمه بقايا ثمرة خس أخذ ينظفها بلسانه ثم شرع فى التهامها، وما إن أنهاها حتى نام على جنبه الأيمن فى الظل وشككت للحظة أنه شرع فى التجشؤ الذى يسبق تعسيلة ما بعد الغذاء، اكتشف الكلب الصغير طعامه بحرية تامة ويبدو أنه قد اختار أن يكون «نباتيا».
يغيب لساعات طويلة ثم يتصادف أن تمر «فسبا» يشغل صاحبها عبر الفلاشة بصوت عال إحدى الأغنيات الشعبية الصاخبة، فيظهر الكلب الصغير من مكان ما ويظل يجرى خلف «الفسبا» بطريقة لا تشبه الكلاب، ولكنها أقرب إلى قفز الكنغر الراقص، قال لى عامل المقهى إنه دماغ وإنه قبل يومين وفى أثناء تنظيف المقهى فجرا عقب انصراف الرواد تسلل إلى أحد الأركان مستكينا، بينما عملية التنظيف تتم برعاية صوت أم كلثوم القادم من الراديو، سألته عن اسم الأغنية فقال العامل «أنا فاكر؟ اسأله».
كلب صغير محب للحياة أصبح نجم الشارع، اعتبرناه هاربا من أهله، وكنا نتساءل عن سر اختياره لهذا الشارع بالذات إلى أن أختفى تماما، سألت السايس فقال إن مجموعة من الكلاب دخلوا الشارع فجر أحد الأيام وخرج معهم ولم يعد، ظننت أن السايس يمنحنى نهاية منطقية ليريحنى، لكننى تذكرت أننى فى نفس الوقت تقريبا صحوت فجرا على أصوات نباح عالية فى الشارع يتخللها نباح جروى الصغير المميز، قلت لنفسى إن السايس صادق، وإن هذا النباح كان نقاشا عائليا انتهى باصطحاب الابن البار إلى ملاعب العائلة، وإنه تحت ضغط ما اضطر إلى الرحيل عن العالم الذى اختار أن يعيش فيه بنفسه وبقوانينه الخاصة جدا فى الطعام والانطلاق وحب البشر والموسيقى.
مر وقت طويل افتقدته خلاله إلى أن رأيته اليوم يخرج من أسفل السيارة ويجرى باتجاهى بشوشا كعادته، لكنه كان يعرج ويرفع بصعوبة عن الأرض ساقه الخلفية المكسورة.
المصدر | جريدة التحرير