(1)
بعد هدف أبو تريكة أشعل المشجعون بعض الشماريخ فأضاؤوا استادا «بابا يارا» وسط دهشة الغانيين، بعد دقيقة ألقى أحد المشجعين الشمروخ بعد أن أنهى مهمته وتحول إلى مجرد هيكل شبه محترق، انحنى أحد أفراد الشرطة الغانية والتقط الشمروخ الفارغ ثم رفعه فى وجه المشجع وهو يصيح بمنتهى العصبية والفزع:
«?Do you want to kill me? Do you want to kill me»
اندهش المشجع من (أفورة) الشرطى الغانى فقال له نصًّا (كيل يو إيه يا عم الحج.. إت إز شمروخ).
كان المشجع يرتدى فانلة الزمالك، كنت أنقل النظر بينه وبين الجندى المرعوب، على يسارى قليلا كان يجلس بين المشجعين عبد الله السعيد لاعب الأهلى يتابع المشهد بنصف ابتسامة، بينما على البعد تلوح من مدرجات مشجعى غانا لافتات رابعة، وفى نقطة أعلى شاب نصف عارٍ يحاول أن يعلق على سور مدرج المصريين علم السويس الذى أسقطه الهواء، فى تلك اللحظة أحرزت غانا هدفها الثالث.
(2)
فى مكتب التطعيمات كان يسبقنى فى الدور وفد من عشرين عاملا مصريا فى طريقهم إلى الكاميرون، كان أداؤهم مستفزًّا لدرجة أربكت الممرضة ضاربة الحقن، ظلت المناوشات مستمرة حتى أتى دورى للحصول على ثلاث حقن، بعد اثنتين اشتعل الموقف مجددا فتركتنى الممرضة وتوجهت ناحيتهم فى اشتباك لفظى طال قليلا، وعندما عادت إلى سألتنى (إنت أخدت أنهو اتنين؟)، كان السؤال صعبًا والإجابة شبه مستحيلة، خصوصا أن جميع الحقن مفروشة بعرض مكتبها، راجعت دفتر الأسماء والعهدة، لكنها لم تصل إلى إجابة قاطعة، كان هناك حل وسط وهو أن أكتفى بتطعيم ضد مرضين، لا أعرفهما وأترك الثالث على الله، هذا أفضل من احتمال الحصول على جرعة زائدة قد تقضى على الواحد.
ارتضيت بالحل، ثم قضيت الأيام التالية أحاول أن أتعرف على نوع التطعيمات التى حصلت عليها عن طرق مذاكرة الأعراض الجانبية لكل واحد، فى كوماسى عرفت أن أحدهما كان تطعيم الصفراء من فرط الحمى والرعشة التى سَرَتْ فى جسدى صباح يوم المباراة.
(3)
على الرغم من أن اللون الأخضر يشكل ثلث علَم غانا فإنه يشكل غانا نفسها، لدرجة أننى رأيتها تنمو فوق سيارة نصف نقل مهجورة بالقرب من الفندق، لكن القاعدة انكسرت عندما قررت أن أزور تجمعات المسلمين فى (آبا بو) بناء على كلام أحد رجال الأزهر الذين التقيتهم على هامش تمرين المنتخب، وقال إن وضع المسلمين هنا هو الأسوأ ماديا على الإطلاق، وهناك غابت الخضرة وظهر التجمع العشوائى، لكن الابتسامة لم تغِب، وكانت صلاة العيد بينهم بها شىء ما من فرحة الطفولة القديمة فى مثل هذه المناسبة، صادقت ثلاثة أطفال (عبد الرشيد، وعبد الشديد، وعبد السلام)، ثم قررنا أن نشترى أضحية، على أن يكونوا هم الوسيط بينى وبين البائع، فى بداية الصفقة قال البائع إنه يريد ثلاثة آلاف سيدى غانى ثمنًا للخروف (السيدى باتنين جنيه ونص مصرى)، كان أحد الأصدقاء الغانيين قد دربنى على اللعبة.. اترك البائع يقول ما يريد ثم حدد أنت السعر الذى يرضيك، سيرفضه البائع، انصرف فورا وسيقوم هو بمطاردتك موافقا على السعر الذى قلته.
من واقع خبرتى ثمَّنت الخروف بـ300 سيدى، تمت الصفقة بالسيناريو السابق، وعدنا بالخروف وشاهدت الأطفال مستمتعين بعملية غسله بالماء والصابون، لكن لم ألحق بقية مناسك الذبح، لأن موعد المباراة اقترب، على وعد منى بأن أعود إليهم بعد المباراة ووعد منهم بأن (يشيلوا لى نايبى).
(4)
الآلام الشديدة فى الجسم كله جعلتنى أعيد التفكير فى مسألة الذهاب إلى الاستاد، لكننى تحملت على نفسى، وهناك انهارت المقاومة تماما بعد أن هطلت الأمطار لأكثر من ساعة تشبعت فيها ملابس الواحد بالماء فاكتملت دائرة المرض، وبِتُّ أتابع المباراة كأننى أحلم، ثم سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس، بعد الهدف الرابع كنت أشق طريقى خارجا من الاستاد، كانوا قد أكدوا علينا أن لا يقوم أحدنا بمثل هذا التصرف وأن يلتزم بالبقاء فى المدرج إلى أن تخرج كل الجماهير الغانية، لكن الحالة كانت سيئة فخرجت على غير هدى باتجاه باب الاستاد.
فى الطريق إلى الباب كانت تمر بالواحد مشاهد كثيرة، لاعبو المنتخب الغانى جيرانى فى الفندق الذين لم ينقطع مرحهم فى ردهات الفندق طول الوقت دون حساسيات، بينما لاعبو منتخبنا يختبئون فى غرفهم فى كل مرة يدخل صحفى مصرى إلى الفندق، المناوشات الضاحكة مع المدير الفنى لغانا على طاولات العشاء المتجاورة، ومشهد ضياء السيد وهو يعنف المصورين المصريين ويطردهم من أرض ملعب التمرين، هذا البلد الرائع الذى يعشق مصر لكن مصر تدير ظهرها له فاحتلتها جامعة إيرانية وشركات إسرائيلية، بيوت مصرية أعرفها وهى تتابع المأساة تليفزيونيا فى أول أيام العيد، التطعيم الناقص وما قد يترتب على غيابه، هذا المنتخب الذى كسبناه على أرضه منذ ثلاث سنوات وكيف مرت السنوات الثلاث عليه وعلينا حتى وصلنا إلى هذه النقطة.
على باب الاستاد وجدت مئات مشجعى غانا يقفون يتابعون المباراة عبر سماعات كبيرة تذيع التعليق، التقت أعيننا، تذكرت تنبيهات بعدم الخروج، توقفت لثوان، كان واضحا بالنسبة لهم من أنا، شخص ما بينهم رفع يده وصفق فبدأ الجمع كله يصفق لى بحماس، بينما ابتسامات محبة ما تعلو الوجوه كلها.
بادلتهم المحبة إلى أن خرجت من بينهم، كانت شوارع كوماسى خالية تماما، التقطنى مهندس مصرى يعمل فى أكرا غادر الاستاد قبل دقائق، وكان بالصدفة يقيم فى الفندق نفسه فعدنا سويا.
(5)
من كوماسى إلى أكرا كان الأوتوبيس يضع علَم مصر، فى أثناء المشوار رأيت عبر النافذة شابا غانيا يقود موتوسيكلا وعلى وجهه ابتسامة عريضة، رفع يده اليمنى ولوّح لى بالأصابع الخمسة، كان يحتاج إلى إصبع من يده الأخرى لتكتمل نصف الدستة، لكنه كلما هم برفع يده الثانية اهتز الموتوسيكل فى يده، حاول أن يفعلها كثيرا ليشير بالستة، لكن الأمر كان محفوفا بالخطر، وظل يحاول دون فائدة إلى أن تجاوزناه.
توقفنا قليلا فى إحدى المحطات للتزود بالماء والعصائر وفى الوقت نفسه للحصول على استراحة، ليس من المشوار ولكن من الحديث المتواصل الذى لم ينقطع لحظة منذ تحركنا وكانت البطولة الفردية فيه للكابتن مجدى عبد الغنى رفيق الساعات الخمس.
تحركنا، وبينما الأوتوبيس يهدئ من سرعته فى مدخل إحدى القرى ظهر شاب الموتوسيكل من جديد، يبدو أنه قد تدرب جيدا على الحركة، إذ مر من جوارى وهو يرفع يديه الاثنتين بعلامة الستة، بينما الموتوسيكل يحافظ على توازنه بشكل طبيعى، كانت ابتسامته أكبر هذه المرة فرحًا بالنتيجة وبنفسه، وأنا قلت لنفسى إن هذه الروح هى التى تستحق بالفعل أن تصل إلى كأس العالم.
المصدر جريدة التحرير