مجموعة سعودي القانونية

فى بداية سنوات الثمانينيات، أهدانى الوراق الكبير «سعد الزنارى»، (كان أيضا من كبار المثقفين غير المشهورين إعلاميا، فقد كانت الكتب مهنته وصناعته ومتعته، بعيدا عن الأضواء) ــ كتابا بعنوان «فئران الأنابيب» للصحفى الفرنسى ميشيل دى كليرك، الإهداء كان بمناسبة مناقشة حول نظرية المؤامرة، أعلن فى نهاية النقاش أن السياسة ليست قصيدة رومانسية (كان عم سعد شاعرا يكتب باللغة العامية)، وربما تكون المؤمرات ذات الأهداف الضيقة هى التى أنتجت أغلظ القرارات قسوة فى تاريخ البشرية، وكان كتاب الصحفى الفرنسى يحمل عنوانا فرعيا آخر من كلمة واحدة «بقشيش». فى ذلك الزمان فوجئت بكل ما جاء فى هذا الكتاب، الذى كتبه دى كليرك على هيئة رواية، مستبدلا الأسماء الحقيقية لأبطال الأحداث بأسماء وهمية، فالكتاب، او الرواية، كانت تتحدث عن عالم البترول والسلاح وطبعا الحرب، فمن الواضح أن الخوف كان يسيطر على من يكشف مثل هذه الوقائع فى هذه السنوات (الكتاب منشور عام ١٩٦٨).

مع الصفحات الأولى يدرك القارئ على الفور، أن الحروب لا تنشب فقط لأسباب كبرى أو لاستحكامات لا فكاك منها، بل ولا تنشب أيضا لمصالح اقتصادية صخمة، إنما قد تشهد منطقة ما من العالم نزاعا شرسا، لأن هناك فأرا صغيرا (سمسارا) يرغب فى التخلص من عدة صناديق أسلحة بالية بائرة، فلا بأس من تدخل السياسة لتهيئة نشوب النزاع، فهذا أيضا سيساعد أن يرفع من سعر السائل الأسود اللزج داخل الأنابيب، فهذا ما قد يحتاجه بعض الكبار لبعض الوقت، وكما يقول الكاتب الفرنسى فى روايته، فأحيانا تنشب الحروب من أجل رغبة الصغار فى الحصول على «البقشيش»، لكن فى إطار تحقيق مصالح الكبار، أى كان تصنيف الكبار، دول أو شركات او أشخاص، فهناك من يبحث عن الأموال، فى نفس اللحظة التى يرغب فيها طرف آخر تأكيد القوة والنفوذ، وهناك دائما من يريد العبث بخريطة العالم من أجل مصالح بلاده، وبينهما من يلهو ومن يجرب ومن يمارس عقده النفسية.. وكل ذلك لا يتم إلا فى إطار مؤامرات الغرف المغلقة، والمذهل أن من بين فئران الأنابيب، الكثير من العرب.. ملوك وأمراء وشيوخ وتجار وسماسرة وبلهاء يعتقدون أنهم عباقرة وفرسان لشعوبهم المسكينة، أو لطوائفهم المضطهدة.

تذكرت الكتاب، وأنا لا أفهم على وجه الدقة التطورات السريعة الملتهبة صوب تحطيم ما تبقى من جيش سوريا، وإصرار الولايات المتحدة على قتال هذا الجيش المنهك، رغما عن أنف العالم، فلا مجلس الأمن متحمس لذلك، والحليف البريطانى رفض برلمانه الهجوم، أمريكا تقول إنها تبحث عن المبرر القانونى، وكتابها يدفعون رئيسهم للضرب إنقاذا لهيبة الولايات المتحدة كما يقولون، وكالعادة أوروبا تتألم للوضع المأساوى الذى خلقه بشار لشعبه، وإسرائيل تطلق صفارات الإنذار، وبعثة الأمم المتحدة لم تحسم نتائج تحقيقاتها، والبيت الأبيض يقول إن المعلومات العامة تقول إن بشار الأسد استخدم أسلحة دمار شامل (أى والله قالوها، هكذا المعلومات العامة).. ومنذ عامين والحرب دائرة فى سوريا والملايين من الشعب الشقيق أصبحوا لاجئين فى البقاع المحيطة بهم، والضحايا تجاوزوا المائة ألف، والآن، وفقا للصليب الأحمر الدولى فى آخر نشراته الصحفية من دمشق، هناك من يموت من الجوع على أطراف العاصمة لأن الطعام لا يصل إلى هناك، عرفنا كل ذلك مع الأسف الشديد.. عرفنا الضحايا، لكننا حتى الآن، وعلى طريقة ميشيل دى كليرك، لم نعرف من هم ملوك هذه الحرب وسماسرتها.. لم نعرف من أشعل كل ذلك من أجل «البقشيش»، وأعتقد هذه المرة فى الغالب لن يحصل عليه، لأنه بالضرورة سيكون فى مقدمة ضحايا المرحلة النهائية، وفقا لمؤامرة الحرب السورية.. فالفئران يمكن أن تموت أيضا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *