منذ وقعت جريمة قتل ثلاثين جنديا وضابطا فى سيناء، ونحن نسمع أصوات المحرضين والمزايدين بأكثر من أصوات الباحثين والمحققين. فالأولون لديهم إجابات جاهزة فى الموضوع (وفى كل موضوع آخر)، فى حين أن الاخيرين يسألون أكثر مما يجيبون ويتأنون فى إصدار الأحكام والتقييمات، حتى تتوافر لديهم المعلومات الصحيحة والمقنعة. ولا مفر من الاعتراف بأن حظوظ الأولين أكبر فى زماننا. ذلك انهم رهن الإشارة فى كل مناسبة، وحاضرون فى مختلف منابر الإعلام وبرامجه فى أى وقت، خصوصا ان بعضهم لا يكاد يذكر أو ترى له صور إلا فى الملمات. كأنما صاروا فريقا متعدد الاختصاصات جاهزا للقيام بالواجب عند اللزوم. الأمر الذى يذكرنا بمكاتب توريد المجموعات المعروفة فى المحيط الفنى. وهى التى لديها طواقم جاهزة توفر الحشود المطلوبة لأى مشهد، سواء كان حربا أو عرسا أو جنازة أو حتى استعراضا عسكريا.
(قرأت ان نشاط تلك المكاتب تطور فى ألمانيا، بحيث ظهر منها جيل جديد مستعد لتنظيم المظاهرات لصالح أو ضد أى قضية عامة من الاجهاض والشذوذ الجنسى إلى الاتفاق النووى مع إيران والدفاع عن الأكراد. وفى هذه الحالة فإن المكتب المختص يتعاقد على الموضوع، فيحشد المتظاهرين ويجهز اللافتات والهتافات والهتيفة، لعدد معين من الساعات مقابل أجر معلوم).
ما ان وقعت الواقعة يوم الجمعة الماضى. حتى انتشرت المجموعات فى مختلف المنابر الإعلامية، وشرع أفرادها فى ممارسة التعبئة والتحريض وتوزيع الاتهامات، الأمر الذى دفعنى إلى تسجيل ثلاث ملاحظات هى:
• ترددت فى تحليلات وتعليقات المتحدثين فكرة مبسطة خلاصتها ان الإرهابيين بالجريمة التى ارتكبوها وبالممارسات الأخرى التى لجأوا إليها انما أرادوا «إسقاط الدولة المصرية». وهو مصطلح يثير عندى رد فعل سريع يدفعنى إلى القول بأن الذين يطلقون هذا الكلام يخطئون مرتين، فهم من ناحية لا يعرفون حجم قوة ورسوخ الدولة المصرية التى تمتد جذورها فى عمق البيئة والمجتمع منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، الأمر الذى يوفر لها قدرا هائلا من الثبات يجعلها عصية على الإسقاط الذى يتوهمه أو يروج له هؤلاء. من ناحية ثانية فإنهم يختزلون الدولة فى الحكومة وأحيانا فى شخص الرئيس (مصر مبارك مثلا) وذلك اختزال مخل لأن الدولة كل والحكومة جزء، والأولى تتكون من الشعب والأرض والمؤسسات فى حين ان الحكومة هى إحدى تلك المؤسسات. وأرجح أن الترويج لفكرة استهداف اسقاط الدولة يمثل مبالغة متعددة للتهويل من شأن الخطر، وتجنب تصنيف الإرهاب باعتباره وسيلة شريرة للصراع ضد الحكومة.
• كان واضحا فى خطاب المتحدثين إلحاحهم على الضيق بالديمقراطية والحث على التشدد والقمع بأكثر من دعوتهم إلى محاولة تفهم ملابسات الحدث الذى تكرر أكثر من مرة. ان شئت فقل ان التعليقات توسلت بالعضلات وليس بالعقل. فمن المتحدثين من دعا إلى إزالة مساكن السيناويين عند الشريط الحدودى باعتبارهم حاضنين للإرهاب ومنهم من دعا إلى إعلان حالة الطوارئ والتوسع فى المحاكمات العسكرية مع عدم التدقيق فى مسألة حقوق الإنسان. ومنهم من طالب بتأجيل الانتخابات إلى ما بعد القضاء على الإرهاب، ومنهم من تشدد فى الابقاء على قانون منع التظاهر وعدم الاستجابة لضغوط سحبه أو تعديله، وفى هذا السياق حبذ البعض فكرة «الشرطة المجتمعية» التى بمقتضاها يتحول نصف المواطنين إلى شرطة والنصف الآخر إلى مخبرين. وفى حين تبنى الخطاب لغة التشدد والقمع فإن أحدا لم يطرح السؤال: لماذا تكررت حوادث قتل الجنود فى سيناء وكيف نضمن عدم تكرارها؟
• الملاحظة الثالثة وثيقة الصلة بالثانية، وخلاصتها ان التحليلات صوبت النظر إلى الخارج بأكثر مما صوبته إلى الداخل. بمعنى انها انشغلت بما يدبره الآخرون أو يتمنونه، ولم تنشغل سواء بالتحقيق فيما جرى أو بما كان يتعين علينا ان نفعله للحيلولة دون وقوع ما جرى، وهو نهج فى التفكير ليس جديدا لأن استسهال الإحالة إلى اتهام الخارج (الذى نعرف انه ليس بريئا دائما) أمر درجنا عليه، فى غيبة ثقافة نقد الذات فضلا عن تراجع قيمة المساءلة فى المجال العام.
حين وقعت تفجيرات لندن فى عام 2005 التى هزت المجتمع البريطانى وراح ضحيتها أكثر من خمسين شخصا، فإن أجهزة السلطة لم توجه أصابع الاتهام إلى أى أحد خلال الأسبوع الأول من الجريمة، ولم تطلق اية تصريحات بخصوص المتهمين إلا بعدما استجوبت بعض المشتبهين الذين تم اعتقالهم، ثم حددت سبعة أشخاص وجهت إليهم الاتهام. وهؤلاء قدموا إلى محاكمة علنية استمرت نحو سنتين، وأسفرت عن إدانة أربعة حكم عليهم بالسجن المؤبد فى حين تمت تبرئة الثلاثة الآخرين، الشاهد ان الأمر عولج بغير تشنج أو ترهيب أو قمع لعموم المسلمين ذوى الأصول الباكستانية الذين يعيشون فى بريطانيا.
إننى اتفهم جيدا حساسية الموقف وخصوصية وضع اطرافه، لكننى أزعم أننا إذا لم نستوعب دروس الحدث فسوف ترتكب جريمة أخرى. وستكون الأخيرة أفدح لأنها ستتم فى صمت بعيدا عن علم أو رقابة الرأى العام، بما قد يفتح الباب لتكرار ما جرى مرة أخرى.