فهمى هويدى يكتب | إذا ظل البيت من زجاج
إذا اعتبرنا أن الذى شوَّه ملف حقوق الإنسان فى مصر هو تآمر الأوروبيين والأمريكان والمنظمات الحقوقية الدولية والتنظيم الدولى للإخوان. فنحن نخدع أنفسنا وندفن رءوسنا فى الرمال. وإذا نجحنا فى تسويق هذه الفكرة فى داخل مصر وأقنعنا بها بعض شرائح المصريين، فمن الصعب إقناع الرأى العام الخارجى بها. لأسباب كثيرة فى مقدمتها أن فكرة تآمر كل هذه الأطراف ضد مصر تبدو ساذجة وغير قابلة للتصديق. وإذا اعتبرنا أن رد الحكومة المصرية على الانتقادات الموجهة لسياستها فى مجال حقوق الإنسان ومعها اجتماعات وتصريحات بعض أعضاء الوفد الرسمى، يمكن أن تغير الصورة السلبية التى استقرت فى الساحة الدولية إزاء مصر، فإننا بذلك نضحك على أنفسنا ونمارس قدرا من الاستعباط يصعب على الآخرين ابتلاعه وتمريره. وحين ننحى باللائمة على السفارات المصرية والمكاتب الإعلامية المصرية المقامة فى العديد من العواصم الأجنبية، ونشير بأصابع الاتهام إلى مصلحة الاستعلامات وتقصيرها فى التواصل مع الصحفيين الأجانب أو توزيع تقارير الدفاع عن السياسة المصرية، فإننا نطالب تلك الجهات بما لا تستطيع أن تقوم به. ولست أدافع عن تقصيرها فى الرعاية لمصر، لكننى أزعم أن صورة مصر فى الخارج لا ترسمها الحملات الدعائية وشبكة العلاقات العامة، وإنما ترسمها بالدرجة الأولى الحقائق الماثلة على الأرض. وفى كل الأحوال فينبغى أن يكون واضحا للجميع أن العالم الخارجى لا يتابعنا بآذانه وحدها، لأن مختلف الدول والمؤسسات الحقوقية لها أعينها فى مصر، وأغلبها يعرف عن البلد أكثر مما يعرفه أغلب المصريين.
حين بدأت اجتماعات مجلس حقوق الإنسان فى جنيف كان المصريون يتداولون عبر مواقع التواصل الاجتماعى البيان الذى أصدرته 15 منظمة ومجموعة حقوقية مستقلة الذى انتقدت فيه أحدث انتهاك لحقوق الإنسان فى مصر، متمثلا فى صدور القانون الذى قضى بتوسيع صلاحيات القضاء العسكرى، بما يفضى إلى محاكمة المدنيين أمامها خلافا للدستور، الأمر الذى اعتبر بمثابة التفاف على إعلان الطوارئ. وذلك بعدما تم تكليف القوات المسلحة بحماية المنشآت والمرافق العامة فى البلاد، وهو ما يعتبر كل اعتداء على تلك المنشآت جريمة تخضع للقضاء العسكرى غير المستقل. فى الأسبوع نفسه كان مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان قد أصدر بيانا آخر انتقد سجل المحاكمات غير العادلة التى يتعرض لها النشطاء. الأمر الذى يؤدى إلى إخضاعهم لعقوبات قاسية، فى حين لا تتم محاسبة رجال الأمن الذين يرتكبون الانتهاكات الجسيمة بحقهم. توازى ذلك مع البيان الذى أصدره الحزب الديمقراطى الاجتماعى وأورد فيه قائمة من الانتهاكات التى مورست خلال الأشهر الماضية، التى تمثلت فى التضييق على منظمات المجتمع المدنى، وتهديد النشطاء فى المجالات السياسية والنقابية والاجتماعية بعقوبات تصل إلى الإعدام. وتقييد حق التظاهر السلمى وممارسة القمع فى الجامعات، الذى كان الطلاب ضحية له.. الخ. إلى أن قرأنا فى عدد الشروق يوم الثلاثاء الماضى (4/1) مقالة الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء السابق، التى أورد فيها قائمة بالقرارات والقوانين التى صدرت بالمخالفة لنصوص الدستور خلال العام الأخير.
كل ما سبق لا علاقة له بالإخوان. وليست فيه إشارة إلى المذابح التى وقعت فى فض اعتصامات رابعة والنهضة وجامع الفتح وغيره. ولم يُذكر فيه شىء عن آلاف المعتقلين ولا إلى المئات الذين صدر الحكم بإعدامهم، وأضعافهم الذين صدرت بحقهم أحكام بالغة القسوة، فى حين مورس قدر ملحوظ من التسامح مع رجال الأمن الذين ارتكبوا جرائم عديدة بحق النشطاء (الضابط الذى أدين فى استهداف عيون المتظاهرين، وزميله الذى تسبب فى إحراق أكثر من ثلاثين محبوسا أثناء نقلهم إلى سجن أبوزعبل، وعشرات الضباط الذين اتهموا بقتل المتظاهرين أثناء الثورة).
إذا لاحظت أن ملف الإخوان لم يرد ذكره فى كل ما سبق، فستدرك أن الأزمة أكبر منهم وأن القضية أعم. لذلك فإن تركيز الإعلام المصرى على دور التنظيم الدولى فى التحركات التى شهدتها جنيف هذا الأسبوع يصرف الانتباه عن الحجم الحقيقى للأزمة، فيصورها على أنها أزمة جماعة وليست أزمة وطن. وقد كان إعلان 7 مؤسسات حقوقية مصرية انسحابها من المشاركة فى فعاليات جلسة مناقشة الملف المصرى فى جنيف. خشية تعرضها للتهديد وللإجراءات الانتقامية من الجهات الأمنية، شاهدا على مدى عمق أزمة الداخل المتجاوزة للإخوان وقضيتهم.
لا تسرنا بطبيعة الحال الانتقادات أو الإدانات لسجل حقوق الإنسان فى مصر. فى نفس الوقت فإن إنكار الأزمة أو محاولة التستر عليها للتجمل أمام الآخرين أو الإحالة إلى مؤامرات الآخرين، لا يقنع أحدا ولا يحل الإشكال. لكن الذى يبِّيض الصفحة ويرد السهام ويخرس ألسنة الناقدين ويجهض جهود المتآمرين هو واقع الحال فى مصر. إذ إن صلاحه وحده كفيل بتحقيق كل ما سبق. أما إذا ظل بيتنا من زجاج فلن يصلح منه إعادة طلائه بالألوان الجذابة، أو إحاطته بالستائر التى تحجب ما بداخله عن الأعين. أو تغطيته بالطنين الإعلامى الذى يشيد به، فإنه سيظل نوعا من المخدرات التى تغيب العقل بعض الوقت لكنها لا تحول دون الإفاقة على الحقيقة فى نهاية المطاف. ــ إن صيانة حقوق الإنسان فى الداخل وحدها التى تضمن الدفاع عن ملفها فى الخارج.