فهمى هويدى يكتب | احمدوا ربنا
لو كنا فى سوريا أو العراق لكان من الممكن للضحايا الـ37 الذين تم إحراقهم فى سيارة الترحيلات أمام سجن أبوزعبل ان يموتوا مقتولين ــ الحمد لله (أننا لسنا فى سوريا أو العراق). هذا التعليق ليس لى، لكننى وقعت عليه منسوبا إلى أحد الكتاب المصريين الساخرين، هو الأستاذ أسامة غريب. وقد وجدته عبر بصيغة أكثر ذكاء وظرفا عن فكرة سبق ان طرحتها (فى 31 أغسطس الماضى) وتساءلت فيها عما إذا كنا حقا ضد الظلم والقتل من حيث المبدأ، أم أن موقفنا إزاءه يمكن ان يختلف باختلاف الجهة التى أوقعت كلا منهما والاسلوب الذى استخدم لذلك. وكان ذلك بمناسبة تصاعد حملة الاستنكار لعمليات القتل البشعة التى تمارسها جماعة داعش، والسكوت الدولى على حملات الإبادة الأكثر بشاعة التى شنتها إسرائيل ضد مدن غزة وأحيائها. فضلا عن الجرائم التى يرتكبها النظام السورى بحق السوريين يوما بعد يوم، وصدور أحكام بإعدام المئات وتعذيب الألوف فى السجون فى أكثر من دولة عربية أخرى. إلى غير ذلك من الجرائم التى مرت لأنها ممارسات أنظمة ولم ترتكبها جماعة مثل داعش.
ثمة تجاهل لخصوصية البيئة العراقية التى خرجت منها داعش والخلفية الطائفية التى استنبتتها من مجتمع أهل السنة، فضلا عن غموض العوامل الأخرى التى أسهمت فى بروزها وتقدمها واحتلالها صدارة المشهد السياسى فى المشرق على الأقل. وتلك كلها عوامل لا سبيل لتوفرها فى أى بلد عربى آخر. ومع ذلك جرى توظيف داعش لتسويغ وتمرير كل المظالم والشرور التى تحدث فى الأقطار العربية، حتى تحولت إلى فزاعة نجح الإعلام فى تحويلها إلى نموذج يمثل حالة اجتمعت فيها الجهالة والوحشية الدموية والتعصب وكراهية المخالفين. صحيح ان كل الجرائم التى ترتكبها داعش منذ ابتلينا بها مارستها جماعات ودول أخرى عبر التاريخ. فقطع الرءوس كان إحدى وسائل المهاجرين الأوائل للتخلص من الهنود الحمر فى القرنين السابع عشر والثامن عشر تمهيدا لإقامة الولايات المتحدة الأمريكية. وكان الجيش البريطانى يكافئ جنوده الذين يقطعون رءوس الملاويين بعد احتلال بلادهم فى القرن الثامن عشر. ومثل ذلك وأكثر منه عانى منه المسلمون فى الأندلس وفى الجزائر فى ظل الاحتلال الفرنسى وفى البوسنة على أيدى الصرب… إلخ.. إلخ. كما ان قطع الرءوس لايزال يطبق بحكم المحكمة فى بعض الدول الخليجية، لكن ذلك كله فى كفة وممارسات داعش، والظرف الزمنى الذى برزت فيه فى كفة أخرى. ذلك انها اكتسبت وضعا خاصا بسبب انتسابها إلى الإسلام وادعائها إقامة الخلافة. خصوصا ان ذلك حدث فى أجواء الربيع العربى التى برزت فيها التيارات الإسلامية باعتبارها قوى فاعلة فى الساحة السياسية، حتى أصبحت مطروحة ضمن خيارات المستقبل ورهاناته، وهو ما انحازت إليه أغلبية المصوتين فى بعض الأقطار.
كأنما أطلقت داعش فى وسط الربيع العربى لتصبح أقوى أسلحة ترجيح كفة الثورة المضادة، وأنجح وسيلة لإجهاض آمال وأحلام المطالبين بالتغيير فى كافة أنحاء الوطن العربى، حيث جرى التلويح بها فى فضاء المنطقة بأسرها لكى تصبح البديل المروع الذى ستؤل إليه الأوضاع سواء إذا تمت إزاحة الأنظمة القائمة، أو إذا أصبح الإسلاميون طرفا فى السلطة بأية صورة.
ولأن ممارسات داعش وشرورها أصبحت تمثل الحد الأقصى فى العنف والقسوة والاستبداد واضطهاد النساء فضلا عن الأقليات، فإن كل ما لا ينسب إليها من شرور صرنا مدعوين لاحتماله وقبوله. وهو ما عبر عنه بذكائه وظرفه الأستاذ أسامة غريب، حين دعانا لأن نحمد الله ونشكره لأن بعضا من معتقلينا تم إحراقهم فى سيارة للشرطة المصرية. وعُد أفضل من القتل على أيدى داعش، وأغلب الظن انه أراد ان يفضح ويسخر من الخطاب الذى بات يدعو الناس إلى احتمال الظلم والقهر مهما بلغت درجته، طالما انه ليس صادرا عن نموذج الشر الأكبر المتمثل فى داعش.
لا مجال لمناقشة ذلك الاحتمال من الناحية العملية، خصوصا ان بعض وسائل الإعلام وأبواق الأنظمة المستبدة فضلا عن المنافسين والكارهين، ما برحوا يسوقون للفكرة القائلة بأن كل المتدينين المحيطين بنا «دواعش» يخفون هويتهم الحقيقية. وفى ظل تلك التعبئة شاعت فى بعض الأوساط حالة من القبول بالفكرة والاستعداد للتسليم بأن كارثة داعش تهدد الجميع بلا استثناء. لذلك بات الحل المطروح متمثلا فى قطع الطريق امام دعوات التغيير وتطهير المجتمعات العربية من «وباء» الإسلام السياسى بقمعه واستئصال انصاره لهم بأى مشاركة فى المجال العام. وتلك هى الهدية الكبرى التى قدمتها داعش بالمجان لقوى الثورة المضادة، الرافضة لأى تغيير يرفع الظلم السياسى والاجتماعى عن الناس.
ليس ذلك فحسب، وانما كان لإسرائيل نصيبها من الهدية. ذلك ان صعود داعش وأجواء الترويع التى أشاعتها حاولت إسرائىل ان تستثمرها فى اتجاهين، الأول تخويف الفلسطينيين والعرب من حركة حماس والجهاد الإسلامى باعتبارهما من «الدواعش» الكامنة، والثانى إحداث التقارب مع بعض دول الخليج بدعوى التضامن معها فى صد «الخطر المشترك» الذى استنفرها ضد داعش والإرهاب الذى تمثله.
ان الرسالة التى يراد لنا ان نتلقاها تقول ما خلاصته. احمدوا الله على ما انتم فيه، لان أى تغيير للأوضاع الراهنة سوف يستجلب كارثة داعش فى نهاية المطاف، من ثم فلا بديل عن القبول بما هو قائم والحفاظ عليه مهما كانت مظالمه وسوءاته، ليس لانه الأفضل ولكن لأن العَوَر أفضل ألف مرة من العمى.. انهم لا يريدون ولا يتمنون لنا تمام الإبصار يوما ما.