فهمى هويدى يكتب | البيان الذى لم يُقرأ
ثمة قاعدة أصولية ذهبية تقول إنه لا يُنسب لساكت قول، لكن السكوت فى مقام البيان بيان. بمعنى أن المرء إذا جلس صامتا فى حاله فليس بمقدور أى أحد أن ينسب إليه كلاما. إلا أن الشخص ذاته إذا وجه إليه سؤال وسكت أو دعى إلى أمر والتزم الصمت، فإن سكوته ذلك يعبر عن شىء ويحتمل التأويل. وإذا كان صمته فى الحالة الأولى لا يعد موقفا من جانبه، إلا أنه فى الحالة الثانية يبعث برسالة ويحسب موقفا.
إذا قمنا بتنزيل هذه الفكرة على مؤشرات المشهد الانتخابى الذى بدا فيه التراخى وفتور الحماس ظاهرا فى البداية، ولم يتحرك وتدب فيه الحيوية إلا بعد التدخل الذى استخدم وسائل الترغيب والترهيب التى سبقت الإشارة إليها، فقد لا نبالغ إذا قلنا إن البدايات لها بيانها الذى ينبغى ألا نتجاهله. على الأقل من حيث إنه يمثل التعبير التلقائى عن موقف المجتمع أو الشرائح الواسعة منه، فى حين أن بيان الخواتيم مختلف، وهو دال على قدرة السلطة على التأثير فى السلوك الاجتماعى وصياغة الظواهر السياسية. إن شئت فقل إن بيان اليوم الأول يعبر عن موقف المجتمع فى حين أن بيان اليومين التاليين يعبران عن قدرة السلطة.
حين وقعت الواقعة فى اليوم الأول، واستنفرت أجهزة الإدارة والأبواق الإعلامية لاستدعاء الجماهير العازفة خلال البرامج المسائية، كان السؤال الذى رددته ألسنة بعض مقدمى البرامج هو: أين جماهير 30 يونيو؟ صحيح أن منهم من شتم الناس وأهانهم لأنهم تقاعسوا عن القيام بالواجب، ولم يردوا الجميل للمشير السيسى. إلا أن السؤال الأول هو الذى يهمنا فى السياق الذى نحن بصدده، إذ إنه السؤال الصحيح الذى يقربنا من تفسير الادعاء الذى أوردته، أمس، وذكرت فيه أن التفويض الذى تلقاه المشير فى 24 يوليو الماضى قد أسقطه من الناحية السياسية الموقف الشعبى الذى بدا فى مستهل الانتخابات الرئاسية.
إذ لا يشك أحد فى أن انفعالات الشارع واندفاع الجماهير فى شهر يوليو عام 2013 ذلك كله اختلف فى الأسبوع الأخير من شهر مايو 2014. فالحماس خف بفعل الأحداث الكثيرة التى تلاحقت فى تلك الفترة، وقد كان أبرزها المذابح التى وقعت والتظاهرات التى خرجت وفلول النظام السابق الذين عادوا إلى الظهور، فضلا عن تجاهل حقوق الشهداء وصدور قانون منع التظاهر الذى صدم شباب الثورة وأحبطهم، وتلك مجرد أمثلة لم أذكر فيها توحش الغلاء والعودة إلى انقطاع التيار الكهربائى وغير ذلك من العوامل التى أثارت درجات متفاوتة من الاستياء والقلق.
الشاهد أن الذين لبوا النداء واحتشدوا لإعلان التأييد الذى منح فى 24 يوليو، واعتبر احتشادهم وحماسهم تفويضا، هؤلاء اختلفت مشاعرهم فى أواخر شهر مايو عام 2014. ثم إن التفويض آنذاك أعطى للرجل الذى قاد التغيير من موقعه كوزير للدفاع وكقائد عام للقوات المسلحة. ولأن التفويض لم يوقف عجلة الإرهاب وسالت بسببه دماء غزيرة وفى ظله دخل الآلاف إلى السجون، فما عاد له ما يبرره الآن ولينهض النظام الجديد بالمهمة.
لست الوحيد الذى خلص إلى أن التفويض سقط ولم يعد سارى المفعول، لأننى وجدت أن وكالة أنباء رويترز ومركز الأبحاث الأمريكى الشهير «بيو» طرحا نفس الفكرة بصيغة أخرى. إذ تحدثا عن أن العزوف الانتخابى أضعف التفويض الذى منح للسيسى فى يوليو من العام الماضى.
ليس ذلك هو البيان الوحيد الذى صدر عن الجماهير فى اختبار التصويت على الانتخابات الرئاسية، فثمة رسائل أخرى بعث بها المجتمع بسلوكه إبان تلك التجربة، بعضها يتعلق بعدم الاقتناع بأن ثمة معركة تنافسية حقيقية. وبعضها يتعلق بعدم الرضا عن السياسات الأمنية المتبعة، أو عن وجوه الفلول التى عادت إلى الظهور، أو عن الوضع البائس للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى. كما أن ثمة مشكلة فى علاقة النظام الجديد بالشباب الذى حمل الثورة على أكتافه ودفع ثمنا باهظا من دمائه عربونا لنجاحها. لكنهم هم وغيرهم يلحظون عودة للنظام القديم آتية إليهم من أبواب عدة. الإعلام بينها وقطاع الأعمال فى مقدمتها.
إحدى المشكلات التى تواجهها فى هذا الصدد أن أصوات التهليل طغت على أصوات التدبر والتفكير. وأن النغمة السائدة فى الخطابين السياسى والإعلامى، انطلقت من أن الاكتساح تم والشعبية جارفة ولم يعد فى الإمكان أبدع مما كان. الأمر الذى يعيد إلى أذهاننا نموذج النظام الذى دأب على أن يغمض الأعين ويصم الآذان، ويدفن الرأس فى الرمال كى لا يرى شيئا مما يحيط به.
لقد تمنيت أن نحسن الاصغاء لصوت المجتمع، وألا نكتفى بمشاهد الرقص فى الشوارع وعلى أبواب اللجان أو بالأغانى التى تشيع النشوة وتدغدغ المشاعر. كما تمنيت أن يخرج علينا المرشح الفائز قائلا بشجاعة وثقة: لقد تسلمت الرسالة واستوعبت مضمونها وسأجعل دروسها نصب عينى، بحيث تكون تلك مسئولية سلطات الدولة ومؤسسات المجتمع فى المرحلة المقبلة.
إن آفة السياسة عندنا أنها لا تحسن الاصغاء إلى صوت الناس. كما أن القائمين عليها يفضلون التطلع إلى المرايا لكى يروا أنفسهم بأكثر مما يتطلعون إلى مواقع أقدامهم لكى يعرفوا على أى أرض يقفون. وهو طريق نهايته معروفة لمن قرأ التاريخ البعيد أو القريب.