ثمة كتابات واجتهادات عدة تحدثت عما جرى لعوائد المصريين وكيف تغيرت خلال نصف القرن الأخير، إلا أننى أزعم أن الذى جرى لضمائر المصريين يحتاج بدوره إلى بحث وتحقيق. وكنت قد كتبت فى وقت سابق عن تشوّه الضمائر وتراجع المشاعر الإنسانية لدى قطاعات من المصريين لا يستهان بها. وقصدت آنذاك لفت الأنظار إلى ما أصاب تلك القطاعات من استعداد للقبول بأعمال القمع والتعذيب التى تعرض لها الآلاف من المصريين الأبرياء. والذهاب إلى حد تبرير تلك الممارسات والدفاع عنها، وكان قد صدمنى آنذاك ما سمعت عن اضطرار بعض المعارضين إلى تغيير محال إقامتهم بعدما هوجمت بيوتهم وتعرضوا للإهانة والتنكيل من جانب نفر من العوام، الأمر الذى بدت فيه مقدمات «تطهير» بعض المناطق السكنية منهم، كما أدهشنى أن مظاهرة نظمها بعض أهالى قرية «أم دينار» بمحافظة الجيزة ابتهاجا بإعلان فوز المشير السيسى فى الانتخابات، وقد توقف المتظاهرون أمام بيت أحد الرموز الإخوانية الذين قتلتهم الشرطة (الدكتور وائل رشاد) فى تعبير عن الشماتة حيث ظلوا يرتدون أغانى الفرحة فى حين كانت زوجة الشهيد وأطفاله يجلسون وراء الأبواب والشبابيك المغلقة غارقين فى بكاء الأذلاء والمقهورين.
هذا الأسبوع قرأت على يومين متتالين ما كتبه بعض الصحفيين فى جريدتى الأهرام والوطن الصادرتين يوم (الأربعاء 2/7) فى الدعوة لحل الإشكال عن طريق إعدام رموز الإخوان الموجودين داخل السجون، لإخافة الموجودين منهم خارجها، فقال أحدهم: اعدموهم يرحمكم الله، وقال الثانى: اعدم المسجون يخاف السايب. وكنت قد وقعت فى اليوم السابق (الثلاثاء 1/7) على مقالة فى جريدة اليوم السابع روى فيها الدكتور مصطفى النجار قصة سارة خالد طالبة كلية طب الأسنان التى حكم عليها بالسجن سنة ونصف السنة لأنها وضعت دبوسا يحمل شارة رابعة فى غطاء رأسها، وكيف أنه جرى التنكيل بها بحيث وضعت مع السجينات الجنائيات فى سجن القناطر الخيرية، وقد قمن بسحلها وتعذيبها وحرق ثيابها وحبسها فى دورة المياه لمدة أسبوع. حتى ذكرت لأمها فى جلسة محاكمتها الأخيرة أنها تموت ببطء. وأشار الكاتب إلى أنه فى جلسة الاستئناف أعلن محاميها الأستاذ نجاد البرعى الانسحاب بسبب التعنت مع الفتاة وعجزه عن حماية موكلته من الاعتداء أو إيقافه، وتساءل فى إعلان الانسحاب عما جرى للعدالة فى مصر، وما جرى للضمير والإنسانية فيها، وختم الدكتور النجار مقالته التى كان عنوانها «سارة خالد ــ ابكوا ضمائركم» بقوله: الأولى أن نصرخ جميعا ونرفض هذا الظلم وانتهاك كرامة المصريين وبناتهم.
طوال اليومين الأخيرين حفلت المواقع بالتعليقات التى استهجن بعضها ما جرى لسارة خالد، وذكر البعض الآخر بقصة الشاب محمد سلطان، الذى ذهبت الشرطة للقبض على أبيه، ولما لم تجده فاعتقلت ابنه الذى يحمل الجنسية الأمريكية وجاء ليطمئن على أسرته.
وقد أمضى الابن حتى الآن 306 أيام فى السجن وأضرب عن الطعام منذ 159 يوما ولايزال التنكيل به مستمرا رغم أنه صار مشرفا على الموت، ولا يعرف أحد أين يوجد.
الدعوة إلى إعدام الرموز الموجودة فى السجون تبدو لغة شاذة ولا تصلح معيارا لإطلاق حكم بفساد الضمائر وتشوهها، لكن المشكلة أن هذه اللغة تستخدمها بعض عناصر النخبة بصورة أخرى غير مباشرة. آية ذلك أن نقيب الصحفين الأسبق كتب محذرا من احتمال أن يتولى الناس تنفيذ القانون بأيديهم وتأديب المعارضين، وبذلك وفر غطاء لتسويغ الانتقام وتبرير تعديات المهووسين والبلطجية، من ذلك أيضا أن رئيس لجنة الخمسين لم يستنكر محاولة إحراق بيت أحد الإخوان، مدعيا أن «البادى أظلم»، حيث بدا مؤيدا للبلطجة وتصفية الحسابات التى تتم خارج القانون.. إلخ.
جيد أن نستهجن السكوت وننتقد ما أصاب ضمائرنا، دائما الموقف الأصح أن نبحث عن تفسير للتشوهات التى أصابت الضمائر حتى أفسدتها، وأن نلح على ضرورة إيقاظ الضمائر وإعادتها إلى سويتها، وكنت قد قرأت تعليقا لزميلنا الأستاذ أسامة غريب تحدث فيه عن أن «التليفزيون خرَّب الناس تماما حتى أصبحوا يحيون الظلم ويمقتون الحرية والكرامة»، وذلك اجتهاد يسلط الضوء على جانب مهم من المشكلة، لأن أحدا لا يشك فى أن الإعلام لعب دورا مهما للغاية فى التحريض والتعبئة والتشويه لكنه كان أحد أسباب أزمة الضمير التى أفسدت مشاعر كثيرين. ولا نستطيع أن ننسى تأثير عقود الاستبداد على مشاعر الناس وسلوكياتهم، ولا ضعف الأحزاب الساسية والإعاقة التى أصابت المجتمع المدنى، كما أننا لا نستطيع أن نتجاهل أن الأغلبية التى دخلت إلى السياسة بعد الثورة ــ جاءت ناقصة المناعة وغير مسلحة بأية خبرة أو ثقافة سياسية، وقد أفقدهم الاستقطاب الذى قسم المجتمع توازنهم. وهو الاستقطاب الذى قادته عناصر من النخب لعبت دورا لا ينسى فى إشاعة البغض والكراهية إلى غير ذلك من العوامل التى كادت تفقدنا الأمل فى المستقبل، لولا نزاهة وشجاعة نفر من الوطنيين الشرفاء ــ الرجال منهم والنساء ــ الذين لم تتلوث ضمائرهم، وأصبحوا يمثلون لنا بعض أحلامنا المجهضة.