فهمى هويدى يكتب | السياسة مؤجلة لما بعد الرئاسة
لماذا لا نأخذ بيان الإخوان بخصوص العنف على محمل الجد، ليس فقط لكى نختبر صدقيته، ولكن أيضا لكى نبحث عن مخرج للأزمة السياسية فى مصر.
(1)
لا يقولن أحد إنه لا توجد أزمة، أو أن ملف الإخوان أغلق ولم يعد يحتمل مزيد كلام. وهو ادعاء لا يمكن قبوله إلا إذا اتفقنا على الاستسلام للغيبوبة، وقررنا أن ندفن رءوسنا فى الرمال، لكى لا نرى أو نسمع شيئا مما حولنا. ولكى نوهم أنفسنا بأن كل شىء على ما يرام وأن الدنيا ربيع والجو بديع، الأمر الذى يدعونا إلى تقفيل كل المواضيع، كما تقول كلمات الراحل صلاح جاهين فى الأغنية المشهورة. أما إذا أفقنا وخرجنا من حالة الإنكار فسنجد أن ثمة حقائق مدبَّبة فى واقعنا السياسى يتعين التعامل معها، قبل أن تتحول من جراح يمكن علاجها إلى عاهات وعقد تعوق مسيرتنا، ويستعصى البراء منها.
لن أضيف جديدا. لكننى أذكِّر فقط بأن المجتمع المصرى أصبح منقسما بصورة حادة لم يشهدها فى تاريخه المعاصر. وأن الاستقطاب مع ما استصحبه من تجاذب وكراهية متبادلة لم يعد مقصورا على النخب السياسية، وإنما وصل إلى عمق المجتمع فى قراه ونجوعه، الأمر الذى أزعم أنه بات يهدد استمرار التعايش أو يخدم السلم الأهلى. أذكِّر أيضا بأن مخططات الإرهاب لم تتوقف. وإذا كنا قد سمعنا عن عمليات لأنصار بيت المقدس وأخرى لمن وصفوا أنفسهم بأنهم أجناد مصر، فالله وحده يعلم ما هى خطواتهم القادمة، وما إذا كانت هناك منظمات أخرى بصدد الظهور أم لا. وينبغى أن يستوقفنا استمرار المظاهرات طوال الأشهر التسعة الماضية، وهو أمر غير مألوف، واشتداد تلك المظاهرات فى الجامعات على نحو دعا أحد كبار مثقفينا ــ الأستاذ بهاء طاهر ــ إلى اقتراح تعطيل الدراسة فى الجامعات لمدة سنتين. أضف إلى القائمة التركة الثقيلة المتمثلة فى استمرار اعتقال نحو 25 ألف شخص من مختلف الاتجاهات السياسية، غير 16 ألف مصاب على الأقل، ثم تقديم أكثر من ألفين إلى المحاكمات فى قضايا يعلم الجميع كيف رتبت ولفقت. ثم إن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل أو ينسى ملف الذين قتلوا خلال الأشهر الأخيرة. وعددهم تجاوز ثلاثة آلاف حسب تقرير بعض المصادر المستقلة (موقع ويكى ثورة حصر 3248 شخصا قتلوا فى الفترة من 3/7/2013 وحتى 31/4/2014) ــ هل بوسع أحد بعد ذلك أن يدعى بأنه لا توجد أزمة سياسية فى مصر؟
أما القول بأن ملف الإخوان أغلق «إلى الأبد» وانهم لم يخرجوا من السياسة فحسب، وإنما خرجوا من التاريخ أيضا، فهو ادعاء يذكرنا بشعار «الحل النهائى» أو الأخير الذى رفعه النازيون فى ألمانيا فى أربعينيات القرن الماضى. وبمقتضاه دعا القادة النازيون إلى تطهير ألمانيا وأوروبا كلها من اليهود. وأعدوا لذلك (فى عام 1942) ستة معتقلات فى بولندا لاستقبالهم، تمهيدا للخلاص منهم، صحيح أن ثمة فرقا بين إبادة جماعة بشرية، كما هو الحال فى نموذج اليهود. وبين تطبيق الحل الأخير على الإخوان، لكننى أزعم أن ذلك الفرق لصالح ما أدعو إليه، باعتبار أن إبادة البشر قد تكون ممكنة. لكن الأفكار يتعذر إبادتها بقرار تصدره السلطة مهما كان جبروتها، ذلك أن الأفكار لا تقتل بفعل فاعل، وإنما قد تموت بفعل الزمن، إذا شاخت وتآكلت ونضب معينها، وتاريخ المسلمين حافل بما لا حصر له من الفرق والملل والنحل، لكننا لا نعرف فكرة قتلتها سلطة، وإن عرفنا العديد من الفرق، التى بادت بفعل الزمن. وليس بعيدا عنا ما فعله الرئيس السابق حافظ الأسد الذى أصدر قانونا فى عام 1982 قضى بإعدام كل من تثبت عضويته فى جماعة الإخوان، لكن ذلك لم يستأصل الجماعة التى هى الآن عضو مهم ونشط فى الائتلاف السورى. وقد حذا معمر القذافى حذوه، وكانت النتيجة مماثلة لما انتهى إليه الأمر فى سوريا، حيث هم الآن شركاء مهمون فى المؤتمر الوطنى الليبى.
(2)
حين ظهرت فى أنحاء مصر بعض عمليات العنف النوعية، التى كان واضحا فيها إنها ليست من فعل الهواة، كتبت مقالا فى 25/3 كان عنوانه: ليحسم الإخوان موقفهم من العنف والإرهاب. وكان من العوامل الأخرى التى دفعتنى إلى ذلك أن المتحدث العسكرى المصرى ومختلف المنابر الإعلامية، أشاروا بأصابع الاتهام فى العمليات الكبيرة التى تمت إلى جماعة الإخوان، فى حين أعلنت جماعة أنصار بيت المقدس وأجناد مصر عن أنها المسئولة عن تلك العمليات. وقد طالبت فى مقالتى قيادات الإخوان بإصدار بيان يرفض العنف ويدين ممارساته، ويتبرأ من الأصوات الداعية إليه فى داخل مصر وخارجها. كما يؤكد على مواصلة النضال السلمى لاستعادة المسار الديمقراطى وتحقيق أهداف الثورة، جنبا إلى جنب مع فصائل الجماعة الوطنية الأخرى، وتمنيت أن يؤكد الإعلان ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة ويدين أى اعتداء على القوات المسلحة والشرطة.
تعددت أصداء المقالة، بين تأييد وتحفظ وتنديد، ولكن أهم الأصداء كان ذلك البيان الذى أصدره فى الثامن من أبريل الحالى الدكتور محمود حسين الأمين العام للجماعة، الذى ذكر فيه أن منهج الجماعة فى الإصلاح يقوم على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن أعضاءها تعرضوا للتعذيب الوحشى فى السجون والمعتقلات فى عامى 1954 و1965، لكنهم لم يحيدوا عن موقفهم الإصلاحى. ولكى يؤكد ذلك فإنه استدعى عدة شهادات هى:
• تصريح للرئيس الأسبق حسنى مبارك أثناء زيارته لفرنسا عام 1993 لجريدة لوموند الفرنسية، ونشرته عنه جريدة الأهرام فى 1/11/1993، قال فيه ما يلى: فى مصر حركة سياسية تفضل النضال السياسى على العنف. وقد دخلت عناصر الحركة فى بعض المؤسسات الاجتماعية واستطاعوا النجاح فى انتخابات النقابات المهنية مثل الأطباء والمهندسين.
• تصريح وزير الداخلية الأسبق اللواء حسن الألفى فى المؤتمر الصحفى الذى نشرت وقائعه فى 14/4/1994 وأبرزته صحيفتا الأهرام والجمهورية آنذاك. إذ حين سئل عن علاقة الإخوان بتنظيم الجهاد أو الجماعة الإسلامية (اللذان مارسا العنف آنذاك)، فكان رده: الإخوان جماعة لا يرتكب أفرادها أعمال عنف، بعكس تلك التنظيمات الإرهابية.
• تصريح أدلى به خبير الإرهاب الدولى بالأمم المتحدة اللواء أحمد جلال عزالدين لجريدة الأنباء الكويتية فى 14/8/1994، وفيه قرر: إن الإخوان حركة دينية سياسية ليس لها صلة بالإرهاب والتطرف.. وهم فى نظر عدد كبير من تنظيمات العنف يعتبرون متخاذلين وموالين للسلطة ومتصالحين معها.
• بيان أصدرته الجماعة فى ذروة سنوات عنف التسعينيات (فى 30/4/1995) وذكروا فيه أنهم: يجددون الإعلان عن رفضهم لأساليب العنف والقسر لجميع صور العمل الإنقلابى الذى يمزق وحدة الأمة.. وإذا كان جو الكبت والقلق والاضطراب قد ورط فريقا من أبنائها فى ممارسة إرهاية روعت الأبرياء وهزت أمن البلاد.. فإن الإخوان يعلنون فى غير تردد أو مداراة أنهم برءاء من شتى أشكال ومصادر العنف.. وأن الذين يسفكون الدم الحرام شركاء فى الإثم واقعون فى المعصية. وهو ذات الموقف الذى عبرت عنه الجماعة بعد تفجير مركز التجارة العالمية فى نيويورك عام 2001.
اعتبر البيان ان ذلك يمثل الموقف الثابت للجماعة منذ تأسيسها قبل 86 عاما وأن من ينسب نفسه إليها يجب أن يكون ذلك نهجه وتلك سيرته، فإن دعا إلى غير ذلك.. فإنه ليس من الجماعة وليست الجماعة منه مهما أدى أو قال، والجماعة منه براء».
(3)
لم يخضع البيان لأى تحليل أو مناقشة جادة فيما هو معلن على الأقل، رغم أهمية مضمونه ومصدره. وما حدث إن الإعلام تجاهله. ولم تشر إليه بعض الصحف (الأهرام والمصرى اليوم). أما الصحف الذى نوهت إليه فقد كانت عناوينها كالتالى: «الشروق» فى 10/4 الإخوان تتبرأ من الدم الحرام ومصدر حكومى: إخوان كاذبون ــ أمين عام الإخوان: من يمارس العنف ليسوا منا ولسنا منهم ونستنكر كل أشكال ومصادر الإرهاب ــ الإخوان تتجمل بنبذ العنف والإرهاب ــ شباب الجماعة ينقسمون ــ مصدر حكومى البيان مراوغات إخوانية والأمن: مبادراتها لوقف العنف كاذبة ــ سياسيون بيانات إدعاء السلمية لن تغسل سمعة الإخوان.
عناوين جريدة «الوطن» التى صدرت فى اليوم ذاته (10/4) كانت كالتالى: تنظيم الإخوان يتصدع: محمود حسين يتبرأ من العنف ويؤكد الالتزام والقانون ــ شباب الجماعة: اتت من جيل الانبطاح ــ أزمة داخل الإخوان: «أمين التنظيم» يؤكد الالتزام بالقانون ويتبرأ من العنف.
خلاصة الأصداء أن الرسالة رفضت من جانب المؤسسة الأمنية وعناصر النخب المتحالفة مع النظام القائم. ولست واثقا من أنها مصادفة، أن يصدر رئيس الوزراء فى اليوم التالى مباشرة (10/4) قراره بتنفيذ حكم محكمة القاهرة للأمور المستعجلة باعتبار الجماعة منظمة إرهابية وتطبيق قانون الإرهاب على المنتسبين إليها والمروجين لها. (هى بالمناسبة محكمة غير مختصة، لأن القضية من اختصاص القضاء الإدارى وليس العادى، حسب رأى وزير العدل الأسبق المستشار أحمد سليمان).
إذا جاز لى أن أترجم تلك الأصداء فإننى أراها ملتزمة بموقف إغلاق الأبواب ومن ثم إقامة الجدران وليس مد الجسور. وأكاد أرى خيطا يشدها نحو «الحل النهائى» الذى تبنته السلطة النازية فى ألمانيا، على الأقل من زاوية الانطلاق من فكرة الاقتلاع والاستئصال.
(4)
لأن مستقبل الوطن ومصير الثورة أهم عندى من مصير الجماعة، فإن السؤال الذى ينبغى أن يشغل الجميع هو: إلى أى مدى يمكن أن تؤثر سياسة «الحل النهائى» على استقرار الوطن وتحقيق السلم الأهلى فيه بما يصحح مسار الثورة ويسترد روحها؟ ردى الفورى أنه بعد تجربة الأشهر التسعة الماضية فإن تحقيق ذلك الأمل مشكوك فيه، لأن أحدا لا يستطيع أن يرجح إمكانية تحقيق الاستقرار والسلم فى مصر، فى الأجل المنظور على الأقل، طالما استمرت السياسة الأمنية الراهنة على حالها.
أزعم فى هذا الصدد أنه لا مجال للحديث عن السياسة فى التعامل مع الأزمة قبل الانتخابات الرئاسية وربما البرلمانية أيضا، الأمر الذى يعنى أن الاحتقان سوف يستمر حتى نهاية العام الحالى تقريبا. بالتالى فالمرجح أن نظل منشغلين طوال الأشهر المقبلة بالمظاهرات والمحاكمات وبملاحقة شباب الثورة المصرِّين على استعادتها وتحدى قانون التظاهر. وليس لدى تقدير للمزاج الشعبى فى الفترة المقبلة، خصوصا فى ظل الحديث عن الأزمات المتوقعة مثلا فيما خص تفاقم ظاهرة الغلاء وانقطاع التيار الكهربائى خلال أشهر الصيف.
ترتيبا على ما سبق فالشاهد أنه لا مجال للحديث عن أى تفاصيل لحل الأزمة السياسية ليس فقط بسبب التركيز فى الوقت الراهن على ترتيب أوضاع المستقبل، لكن أيضا لأن مبدأ الحل ذاته يثير حساسية وحفيظة التيارات النازية فى المجتمع المصرى، فضلا عن المؤسسة الأمنية بطبيعة الحال. لذلك فإن بيان الأمين العام للجماعة يغدو إبراء للذمة وليس إسهاما فى انفراج الأزمة، وخطابا موجها إلى التاريخ ولا محل له فى حسابات الحاضر، وهو رهان أتمنى أن أخسره وتقدير يسرنى أن يخيب ــ قولوا إن شاء الله.