مجموعة سعودي القانونية

فهمى هويدى يكتب | بانتظار أن تكرم ثورة تونس أو تهان

فهمى-هويدى

الانتخابات الرئاسية التى تستعد لها تونس هذه الأيام بمثابة مغامرة قد تحسب ضمن إنجازات الثورة أو انتكاساتها.

(١)

أقول ذلك بمناسبة الحراك السياسى الصاخب الذى تشهده تونس هذه الأيام، إعدادا للانتخابات التى يفترض ان تتم فى الثالث والعشرين من الشهر الحالى، أى خلال أقل من أسبوعين، وقد اشتدت وتيرة ذلك الحراك بعدما أسفرت الانتخابات التشريعية عن متغيرات مهمة فى الخارطة السياسية، على رأسها مفاجأة فوز حزب «نداء تونس» بالمركز الأول، وتخلى حركة النهضة الإسلامية عن ذلك الموقع وتراجعها إلى المركز الثانى.

ولو ان صخب ذلك الحراك ظل مقصورا على الفضاء التونسى لاعتبر شأنا داخليا وخبرا عاديا بالنسبة للمواطن العربى خارج حدودها، إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن أصداء الحدث التونسى ظلت قوية فى أنحاء العالم العربى منذ انطلقت منها شرارة الثورة واسقطت نظام الرئيس بن على فى عام 2011. وتحولت تلك الأصداء إلى أخبار مثيرة تعلقت بها الأبصار حين فازت حركة النهضة بالمرتبة الأولى خلال أول انتخابات بعد الثورة (عام 2011) وأصبحت لاعبا رئيسيا فى الساحة السياسية بالبلاد، وإذ ظل اداؤها بمختلف مؤشراته محل رصد فى العالم العربى، فإنه لم يتوقف بعد الانتخابات الأخيرة التى تمت فى 26 أكتوبر الماضى. ولم يكن النظر إلى أداء حركة النهضة وحده محور الرصد، ولكن الجدل لم يتوقف حول المقارنة بين أدائها فى تونس وبين تجربة الإخوان حين أصبحوا شريكا فى السلطة بمصر، وقد حظيت تلك المقارنة الأخيرة باهتمام سياسى وإعلامى كبير، حتى صار السؤال المتكرر فى محيط تلك الأوساط خلال العام الأخير على الأقل هو: كيف ولماذا نجح الإسلاميون فى تونس وفشلوا فى مصر؟

لم يكن المثير فى نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة فقط ان حركة النهضة تراجعت إلى الترتيب الثانى. وإنما كان المثير أيضا ان الذى فاز بالمركز الأول كان حزب «نداء تونس» الذى أسسه السيد باجى قائد السبسى الخارج من عباءة النظام القديم وابن مرحلة الرئيسين (بورقيبة ــ بن على)، وبدا واضحا ان ثمة ترحيبا بالنتيجتين من جانب التحالف الأهم فى الساحة العربية، المشتبك مع الربيع العربى والتيار الإسلامى والمتصالح مع الأنظمة القديمة التى تمثل الثورة المضادة. ومن الأمور الكاشفة وذات الدلالة فى هذا الصدد انه فى الوقت الذى أعلن فيه زعيم نداء تونس السيد الباجى قائد السبسى ترشحه للرئاسة من أمام قبر زعيمه الحبيب بورقيبة فإن الأخبار تحدثت عن دور الرئيس اليمنى السابق على عبدالله صالح مع الحوثيين فى تغيير النظام اليمنى وتحدى الرئيس الحالى هادى عبد ربه منصور. كما كان أنصار القذافى يعقدون مؤتمرهم فى القاهرة ويطابون بالمشاركة فى الحوار حول مصير البلاد. (صحيفة التايمز البريطانية ذكرت فى عدد 6/11 نقلا عن أحمد قذاف الدم أن أسرة القذافى تستعد للعودة إلى ليبيا) فى الوقت ذاته كانت رموز نظام مبارك تعود إلى الأضواء بصورة تدريجية. كما أصبح الرجل يثبت حضوره فى المجالس العامة بحواراته الصحفية ومن خلال الإعلام الذى عادت بعض أبواقه إلى تمجيده ووصف ثورة يناير بأنها «مؤامرة». وهى قرائن دلت على أن رموز النظام القديم يتطلعون للعودة بصورة أو أخرى.

واذ تتابعت تلك المشاهد وسط دعم إقليمى مشهود، فإن ظهور السبسى المنتسب إلى ذلك النظام وفوز حزبه من خلال الانتخابات الديمقراطية استدعى كثيرا من الأسئلة القلقة حول تأثير ذلك الفوز على مسار الثورة وتطلعاتها.

(2)

المتنافسون على رئاسة الجمهورية 27 مرشحا. إلا أن نتائج الانتخابات التشريعية أفرزت قوتين تصويتيتين هما حزب «نداء تونس» الذى فاز بـ85 معقدا، والقائم أساسا على «الدساترة» (عناصر الحزب الدستورى الحر ــ بورقيبة) والتجمعيون أعضاء التجمع الدستورى الديمقراطى الذى أسسه بن على، ومع هؤلاء شرائح من اليساريين وغلاة العلمانيين. القوة الثانية تمثلت فى حركة النهضة الإسلامية التى فازت بـ69 مقعدا، ولم تقدم مرشحا للرئاسة. بعدهما بمسافة يأتى حزبان أحدهما الاتحاد الوطنى الحر (17 مقعدا) الذى يضم بعض الأحزاب الصغيرة. وقد أسسه أحد كبار رجال الأعمال (سليم الرياحى) الذى يثار لغط كبير وشبهات عدة حول مصادر ثروته وعلاقته بنظام القذافى، وهو يقدم نفسه بأنه ليبرالى وعلمانى. الحزب الرابع هو الجبهة الشعبية (12 مقعدا) وهو يضم عدة أحزاب يسارية ويترأسه القيادى المخضرم حمَّه الهمـَّامى. ومن الملاحظات الجديرة بالذكر فى هذا الصدد ان حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذى كان يقوده رئيس الجمهورية الحالى الدكتور المنصف المرزوقى فاز بأربعة مقاعد فقط فى البرلمان الجديد، فى حين أن حزب التكتل من أجل الحريات الذى يترأسه الدكتور مصطفى بن جعفر الرئيس الحالى للجمعية التأسيسية فاز بمقعد واحد.

الخلاصة انه رغم ان الكتلة التصويتية الأكبر لاتزال تتوزع على حزب نداء تونس (النظام القديم) وحركة النهضة التى تنتسب إلى قوى الثورة. إلا أنه طبقا للنتائج المعلنة فإن الحزب الأول لم يحصل على نسبة الأغلبية التى تمكنه من ان يشكل الحكومة وحده. ذلك انه حصل على 38.71٪ من الأصوات فقط، فى حين أنه إذا أراد أن يحكم وحده فينبغى أن يحصل على 51٪ على الأقل من الأصوات، لذلك فلا مفر من تشكيل حكومة ائتلافية تشترك فيها الأحزاب الأخرى مع حزب الأغلبية المرشح الأقوى لرئاسة الحكومة، لذلك فإن السؤال الذى يشغل الجميع فى تونس هو: ما هى القوى التى ستقبل بالائتلاف مع حزب النظام القديم. لكى تحظى حكومته بتأييد الأغلبية فى البرلمان؟

(3)

لقد أعلن حزب نداء تونس أنه أرجأ النظر فى ملف تشكيل الحكومة الجديدة والتحالفات السياسية التى ستعتمد عليها إلى ما بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية. فى إشارة ضمنية إلى أن مشاركة القوى السياسية فى الحكومة مرهونة بتأييدها للسيد السبسى فى الانتخابات الرئاسية.

مع ذلك فالطنين لم يتوقف فى تونس حول سيناريو التحالفات المقبلة التى تمكن حزب نداء تونس من الحصول على أغلبية 109 مقاعد من بين 217 مقعدا للتصديق على الحكومة. فثمة سيناريو يطرح فكرة تحالف نداء تونس مع الجبهة الشعبية بزعامة حمَّه الهمـَّامى (15 مقعدا) مع إضافة بعض المرشحين المستقلين والأحزاب الصغيرة التى تمكن حزب النداء من الوصول إلى العدد المطلوب. السيناريو الثانى ان يتحالف حزب النداء مع حزب التحالف الوطنى الحر (16 مقعدا) مضافا إليه بعض الأحزاب الأخرى الصغيرة. إلا أن كلا الأمرين تعترضهما عقبات كثيرة. ذلك ان ثمة خلافات عميقة بين حزب النداء اليمينى وبين الجبهة الشعبية اليسارية. تتركز فى الملف الاجتماعى والاقتصادى. حيث يصعب التوفيق من الناحية النظرية بين برنامج حزب ينطلق من الخلفية الرأسمالية وقوانين السوق الحرة، وبين حزب يسارى له برنامج معاكس تماما. وهو التناقض الذى لم يمنع تحالفهما فى السابق مع ما سمى بجبهة الانقاذ لإزاحة وإسقاط حكومة تحالف «الترويكا» الحاكم بزعامة حركة النهضة (إضافة إلى حزبى المؤتمر والتكتل).

السيناريو الآخر الذى يقوم على تحالف حزب النداء مع حزب «التحالف الوطنى الحر» تعترضه أيضا عقبات عدة. منها مثلا ان مؤسس حزب التحالف سليم الرياحى يطرح نفسه منافسا للسبسى على منصب الرئاسة. منها أيضا ان مصادر ثروة الرياحى مشكوك فى براءتها والكلام كثير فى تونس حول ضلوعه فى عمليات فساد متعددة المجالات. وهناك وجهة نظر رائجة تقول إن الرجل الذى يترأس النادى الأفريقى، أحد أكبر وأعرق الفرق الرياضية فى تونس، لا يعتمد على شعبيته ولكنه يعتمد على قدراته المالية التى تمكنه من شراء أصوات الناخبين. وقد أصبح الحديث عن دور الفساد المرتبط بالمال السياسى بمثابة إشارة غير مباشرة إلى اسم الرياحى ودوره.

إذا فقد الرياحى الأمل فى الفوز بالرئاسة، وهو الأرجح فقد يعقد صفقة مع السبسى بحيث يدعمه فى الانتخابات الرئاسية مقابل ترؤس حزبه (الاتحاد الوطنى الحر) للحكومة أو افساح المجال له لرئاسة البرلمان. ورغم ان ذلك التحالف يمكن ان يشوه صورة حزب نداء تونس حيث تؤثر عليها الشبهات المثارة حول مصادر ثروة الرياحى، إلا أن السبسى قد يجد نفسه مضطرا إلى ذلك لتمرير حكومته أمام البرلمان.

(4)

حركة النهضة فى موقف دقيق وحرج إذ التساؤل عن تحالفها مع نداء تونس مثار بقوة داخل الحركة وخارجها، ذلك ان ثمة رأيا يؤيد التحالف بدعوى أن اللعبة الديمقراطية لها قواعدها وثمنها. وان ذلك التحالف يعزز حضور الحركة فى السلطة. كما انه يشكل كابحا لحزب النداء إذا ما حاول العودة إلى حكم الحزب الواحد وإجهاض مشروع الثورة بتفريغها من مضمونها. وأصحاب هذا الرأى يرون أن التفاهم مع السبسى يمكن ان ينتهى بتسليم رئاسة البرلمان للنهضة، إلى جانب إشراك بعض كوادرها فى الحكومة. ومن شأن ذلك ان يحافظ على الثورة من داخل السلطة.

الفريق المعارض لذلك التوجه يحبذ تأييد الحركة لمرشح الثورة (الدكتور المرزوقى مثلا) ويرى أن التحالف مع حزب النظام القديم يعد تخليا عن مربع الثورة وقواها. ومن ثم فهو يجرح الموقف المبدئى للنهضة إذ يجعل من قيمها موضوعا للمساومة، الأمر الذى ينبغى أن تتنزه عنه الحركة. يرى أصحاب هذا الرأى أيضا أن مكان حركة النهضة يجب أن يظل فى مربع الثورة وليس الثورة المضادة. وبقاؤها فى ذلك الجانب مع القوى الأخرى التى حملت الثورة وضمت أطيافا من العلمانيين المعتدلين واليساريين والقوميين إلى جانب الوطنيين المستقلين هو التعبير الوحيد عن الوفاء لقيم الثورة. وفى رأيهم أيضا ان التخوف من انقلاب نداء تونس على الثورة واستعادة النظام القديم من خلال الممارسة الديمقراطية مبالغ فيه، لانه بات من الصعب ان تعود عجلة التاريخ إلى الوراء، نظرا لقوة المجتمع المدنى ورسوخ قدميه، وهم يؤيدون وجهة نظرهم بقولهم أيضا إن حركة النهضة كانت من البداية عازفة عن السلطة، حيث تركت رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، واكتفت بحضورها فى عضوية البرلمان. وإذا كان ذلك هو موقفها الذى قدمت فيه مصلحة الثورة عى نصيب الحركة من السلطة، فينبغى أن تظل ملتزمة بذلك، وعليها أن تحتشد مع بقية قوة الثورة للدفاع عنها من خلال البرلمان.

ثمة رأى ثالث يرى وجاهة وأهمية لتأمين الثورة فى التحالف مع «نداء تونس» وتأييد السبسى. كما انه يرى أن إعلان موقف يؤيد مرشح الثورة المنافس للسبسى له بدوره أسبابه القوية والمقنعة، لذلك فإنه يطرح حلا وسطا يتكئ على أن الحركة لم تقدم مرشحا لها فى التنافس على الرئاسة. وذلك الحل يفضل عدم إعلان موقف للحركة يؤيد أيا من المرشحين، ويترك لعناصرها حرية الاختيار بين الأصلح منهم. وفى حدود علمى فإن الجدل حول هذه المسألة ظل محتدما داخل صفوف الحركة، إلى ان استقرت قيادتها على الخيار الثالث والأخير.

يفترض أن تحسم الخيارات كلها خلال الأيام القليلة القادمة، قبل أن يحين موعد التصويت على انتخاب رئيس الجمهورية الذى به قد تكرم الثورة أو تهان.

 

المصدر:الشروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *