فهمى هويدى يكتب | طعنة لدولة القانون
تسجيل الحوار الذى دار فى قاعة المحكمة بين الدكتور محمد مرسى ومحاميه الدكتور محمد العوا جريمة تنتهك الدستور والقانون والأعراف، كما أنها تعد إهانة للقاضى والمحامى معا. أما بث الحوار تليفزيونيا ونشره فى الصحف فهو يعبر عن الاستهتار بكل ما سبق ويجسد الجرأة غير المسبوقة على التباهى بارتكاب الجريمة أمام الرأى العام. ومن المفجع ان يحدث ذلك فى حين يرأس الدولة المصرية قاض كبير كان رئيسا للمحكمة الدستورية العليا، ويفترض أنه يعلم جيدا أن ما حدث بمثابة إعلان صريح عن وفاة دولة القانون. وتقترن الفجيعة بالدهشة حين يجد المرء أن الجهات التى يفترض أنها شريكة فى الغيرة على القانون والدفاع عن كرامة القضاء والقضاة التزمت الصمت إزاء ما جرى، الأمر الذى يثير بحقها شبهة التستر ومباركة الفعل الفاضح الذى وقع، إذ إنه يعد هتكا لسلطة القاضى وإخلالا بعدالة المحاكمة. حيث من واجب القاضى أن يحمى حرية المتهم فى الدفاع ويؤمن مداولته. وهو ما لم يأبه به نادى القضاة للأسف، رغم أنه يقع فى صلب مهامه وواجباته. وفى الوقت الذى اعتبر فيه التسجيل عدوانا على المحامى ومصادرة لحقه فى الدفاع، ينتهك الحصانة التى أعطيت له بموجب الدستور، فإننا لم نسمع أن نقابة المحامين رفعت صوتا أدان ما جرى.
الواقعة بحد ذاتها أهم بكثير من التفاصيل التى تخللتها، ذلك ان المداولة التى تمت بين الدكتور محمد مرسى والدكتور العوا واستغرقت دقائق معدودة جرت فى حجرة بقاعة المحكمة. وتمت فى حضور ستة من ضباط الشرطة أربعة ارتدوا ثيابا مدنية واثنان كانا بالزى الرسمى. والحوار الذى دار كان عاديا، بعضه تعلق بالشأن العام والقضية وبعضه كان خاصا بالظروف الخاصة التى يعيش فى ظلها الدكتور مرسى. وقد تحدث التسجيل عن أن الرئيس السابق لم يعد لديه مال يشترى به ما يحتاجه من مقصف السجن، وقال لى الدكتور محمد العوا بأن الرجل أبلغه بأنه أمضى ثلاثة أيام اعتمد خلالها بالكامل على طعام السجن، ولم يكن بمقدوره أن يشترى كوبا من الشاى أو قطعة جبن من المقصف، وكانت إدارة السجن قد رفضت ان تتسلم أية إيداعات مالية تخصه (سمحت بذلك فى وقت لاحق).
الشاهد ان الحوار لم يكن فيه ما يثير الانتباه، باستثناء الوضع المالى المهين للرئيس السابق، الذى كان رمزا للدولة المصرية يوما ما (لا وجه للمقارنة مع رفاهية مبارك وتدليله فى حبسه) ورغم ان ستة من ضباط الشرطة كانوا حاضرين اللقاء، إلا أن الحوار تم تسجيله بالكامل بطريقة سرية. ثم جرى تسريبه بعد ذلك على النحو الذى أدركه الجميع. وفى حين أريد به فضح الرجل فى محبسه، إلا أن الفضيحة الحقيقية كانت من نصيب الذين قاموا بالتسجيل فى قاعة المحكمة والذين سربوه إلى وسائل الإعلام بعد ذلك، والذين داسوا على الدستور والقانون وتباهوا بإشهار الجريمة وتعميمها على الملأ.
عند الحد الأدنى، فإن ما حدث ينتهك النصوص الواردة فى ثلاثة أبواب من الدستور، باب صون الحريات العامة وباب سيادة القانون والباب الثالث الذى يخص السلطة القضائية. وفى حين ينص القانون على عدم جواز التنصت على مواطن بغير موافقته. كما يعد التداول بين المتهم ومحاميه من الأسرار التى لايجوز حتى للمحامى أن يذيعها، فإن الأجهزة الأمنية قامت بالتنصت على الاثنين، ضاربة عرض الحائط بنص القانون وبسلطة القاضى وبحقوق المتهم والمحامى وخصوصية العلاقة المفترضة بينهما، وبلغ بها الاستهتار حدا دفعها إلى إذاعة نص الحوار على الملأ.
فى حين اعتبر بعض الصحفيين أن نشر الحوار المسجل «انفرادا» تباهوا به، فإن القضاة الذين يغارون على مهنتهم ويعتزون بها اعتبروا ما جرى صدمة لم يتوقعوها. ومنهم من روى لى موقف المستشار عبدالغفار محمد حين رأس المحكمة التى نظرت قضية تنظيم الجهاد فى ثمانينيات القرن الماضى، إذ شك فى أن الأجهزة الأمنية تتجسس على مداولات المحكمة، خصوصا ان 47 ضابطا بالشرطة أحيلوا إلى النيابة آنذاك بتهمة تعذيب المتهمين. ولأنها كانت المرة الأولى التى ترددت فيها الفكرة، فإن ذلك الشك أثار غضب القاضى واستفز نادى القضاة الذى كان يرأسه آنذاك المستشار وجدى عبدالصمد. وأمام غضب القاضى والنادى الذى نقل إلى رئاسة الدولة فإن وزارة الداخلية سارعت إلى نفى ما نسب إليها، ولم يواصل رئيس المحكمة نظر القضية إلا بعد أن تحقق من ذلك النفى، وهى خلفية تستحق المقارنة لأننا فى الواقعة التى نحن بصددها نجد أن الداخلية لم تنكر قيامها بالتنصت وان التسجيل أذيع على الملأ واعتبر من جانبها انجازا ومن جانب الإعلام انتصارا وانفرادا.
فى اتصال هاتفى مع المستشار أحمد مكى وزير العدل الأسبق قال العدوان الذى جرى لا يمثل فقط إهانة للقضاء والقاضى فضلا عن المحامى، وإنما هو يشكل أيضا اعتداء سافرا على حرمة المحاكم وحق الدفاع وقيم العدالة ذاتها، وفى هذه الحالة فإنه يتعين على القاضى الذى ينظر الدعوى أن يغضب لسلطانه واستقلاله وللحقوق التى استحفظ عليها. وإذا لم يغضب ــ هكذا قال ــ فإن القاضى فى هذه الحالة لا يصلح لأن يتبوأ مكانته.
المصدر:الشروق