فهمى هويدى يكتب | طه حسين أوَّابًا
حين حلت ذكرى وفاة الدكتور طه حسين هذا الأسبوع (28 أكتوبر)، فإن كل من تصدى لسيرة الرجل وأعماله اختار الزاوية التى تروق له. وأكثرهم ذكَّرونا بما نعرف عن تلك الشخصية العريضة والمثيرة للجدل. إلا أن الدكتور محمد عمارة فاجأنا بدراسة متميزة استعرضت رحلته الفكرية، وكشف لنا عن بعض أوجهه التى تجاهلها بعض الباحثين الذين اعتنوا باغترابه وسكتوا على أوبته.
الكتاب صدر مع العدد الأخير لمجلة الأزهر، واعتمدت مادته على كتابات الراحل الكبير التى وثق بها الدكتور عمارة رحلته الفكرية (ولد فى 14 نوفمبر عام 1889 ــ وتوفاه الله فى 28 أكتوبر عام 1973). وهى الرحلة التى ألف خلالها 54 كتابا ونشر سيلا من المقالات فى الصحف جمعتها وأصدرتها فى 6 مجلدات دار الكتب والوثائق المصرية.
من واقع كتاباته ومواقفه المنشورة قسم الدكتور عمارة الرحلة الفكرية للدكتور طه حسين إلى أربع مراحل هى:
1ــ البداية الفكرية، (الفترة من 1908 ــ إلى 1914) وهى التى سبقت رحلته إلى فرنسا وقد صنفها الدكتور عمارة تحت عنوان طه حسين «الشيخ». إذ تمثل المرحلة التى بدأت بالتحاقه بالجامعة المصرية الأهلية بعد حرمانه من نيل شهادة العالمية الأزهرية، وايفاده فى عام 1914 مبعوثا من الجامعة المصرية لنيل الدكتوراه من جامعة السوربون. من كتاباته فى تلك الفترة بدا الدكتور طه حسين يشق طريقه مترددا بين حزب «الأمة» ومفكره الدكتور أحمد لطفى السيد، الداعى إلى الوطنية المصرية والرافض للعروبة القومية والانتماء الحضارى الإسلامى، وبين «الحزب الوطنى» الذى أسسه مصطفى كامل، وكان يقوده الشيخ عبدالعزيز جاويش. والاثنان من المدافعين عن الجامعة الإسلامية والخلافة الإسلامية، فى تلك المرحلة كتب الدكتور طه حسين فى «الجريدة» لسان حال الحزب الوطنى يقول: إن الوطنية هى الجامعة الوحيدة المشتقة من الطبيعة.. وان الدين على ما فيه من إصلاح للناس وإقامة لحضارتهم وعمرانهم لا يمكن ان يكون جامعة منضبطة للحياة الدنيوية الصالحة. إلا أن الرجل أطل بوجه آخر من خلال صحافة الحزب الوطنى، فظهرت كتاباته فى مجلة الهداية معبرة عن موقف مفكر إسلامى مهتديا فى كتباته بضوابط الدين. فهو يتحدث عن القرآن الكريم باعتباره «كتاب عبادات وقانونى: وحكمة وتشريع».. ويدعو إلى قيام المسلمين بنشر الإسلام، إذ يقول «لأن التوحيد هو ملاك الفضل وقوام الأخلاق الحسنة، وان الشرك هو مصدر النقائص وجرثومة كواذب الأخلاق.. ولذلك فإننا ملزمون بنشر الإسلام ومحو آثار الشرك». ومن الطريف أنه فى تلك المرحلة، قبل أن يقترن بزوجته الفرنسية الكاثوليكية كتب فى مجلة «الهداية» ذاتها قائلا: «استطيع أن أحظر تزوج المسلم من الكتابية من الفرنج، أو على الأقل أضيق دائرته تضييقا شديدا». نظرا لما يمثله ذلك من مخاطر على دين الأسرة والتربية الإسلامية للأبناء.
2ــ مرحلة الانبهار بالآخر (1919 ــ 1930)، ذلك ان الرجل عاد من بعثته مبهورا بالنموذج الغربى، حتى انه انحاز إلى حزب الأحرار الدستوريين ضد سعد زغلول باشا وحزب الوفد الذى كان رمزا للنضال ضد الاحتلال البريطانى. وهى ذات المرحلة التى شارك فيها ودافع عن علمنة الإسلام حين صدر كتاب على عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم». وفى الوقت ذاته شكك فى المقدسات الإسلامية بكتابه «فى الشعر الجاهلى». ووقف منحازا إلى فرعونية مصر والمصريين ضد الانتماء الحضارى العربى الإسلامى.
3ــ المرحلة الثالثة التى امتدت من 1932 إلى 1952 وصفها الدكتور عمارة بأنها مرحلة الإياب التدريجى والمخاض الحافل بالمتناقضات، وفيها رصد الباحث إشارات التحولات الفكرية والسياسية، إذ رغم انه ظل على تعلقه بالنموذج الغربى الذى عبر عنه فى مؤلفه مستقبل الثقافة فى مصر، فإنه انتقل إلى صف الدفاع عن حزب الوفد وسعد زغلول، كما انه انتقل من الانبهار بالثورة الفرنسية إلى نقدها إلى جانب نقده للاستعمار الغربى. كما انه اقترب من الثقافة الإسلامية من باب مغاير بإصداره كتبا مثل «على هامش السيرة» فى ثلاثة أجزاء والفتنة الكبرى (جزءان) والوعد الحق. وانضم فى ذلك إلى كوكبة المثقفين الذين اهتموا بالتاريخ والثقافة الإسلامية (مثل محمد حسين هيكل والعقاد وأحمد أمين وزكى مبارك وغيرهم).
4ــ المرحلة الرابعة الممتدة بين عامى 1952 و1960، أى منذ قامت ثورة يوليو فى مصر، وقد اعتبرها الدكتور عمارة مرحلة الاياب والانتصار الحاسم للعروبة للإسلام من جانبه. إذ انخرط طه حسين فى صف المدافعين عن الثورة وعن انتماء مصر العربى والإسلامى. وفى تلك المرحلة قام برحلته الحجازية التى بللها الرجل بدموعه وطوى بها صفحة اغترابه، وفيها أعلن «ان الإسلام وطن، بل هو الوطن المقدس والصانع الأول للمواطن المسلم عبر الزمان والمكان»، وفى تلك الرحلة سئل عن أحب مؤلفاته إليه كان رده: «لا أحب منها شيئا» وحين سئل عن شعوره بعد قيامه برحلته الحجازية وأدائه العمرة قال: هو شعور الغريب حين يعود بعد غيبة طويلة جدا إلى موطن عقله وقلبه وروحه.
ان بعض مثقفينا يختزلون طه حسين فى كتابات اغترابه التى شكك فيها فى مقدسات المسلمين وهويتهم، ويتجاهلون مرحلة الإياب التى ختم بها حياته. وهو ما فعلوه حين اختزلوا على عبدالرازق فى كتاب «الإسلام وأصول الحكم» وخالد محمد خالد فى كتابه «من هنا نبدأ» وتجاهلوا إياب الرجلين وتصحيح كل منهما لموقفه وتصويبه للأفكار التى سبق أن نادى بها. وهذه كلها ليست مصادفات، الأمر الذى يدعونا إلى الشك فى نزاهة أولئك الباحثين وبراءة مقصدهم.