فهمى هويدى يكتب | «عمارة» بغير أساس
لا أعرف كم واحدا انتبه إلى هذه المفارقة، ذلك أن الجلسات الأخيرة فى محاكمة مبارك وأعوانه الذين اتهموا بقتل المتظاهرين أثناء ثورة 25 يناير عُرضت فيها شهادات أطراف عدة، برأت كلها الشرطة من الجرائم التى حدثت آنذاك. لكن المحكمة لم تستدع المسئولين عن تقرير تقصى حقائق تلك الفترة، وهم أحياء بيننا. ذلك أن اللجنة المستقلة التى وضعت التقرير وضمت عددا من كبار القانونيين والخبراء وجهت اتهاما صريحا للشرطة بالمسئولية عن أحداث القتل التى وقعت أثناء الثورة.
ومعروف أن اللجنة ترأسها المستشار الدكتور عادل قورة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض، وضمت كلا من المستشار إسكندر غطاس مساعد وزير العدل والدكتور محمد سمير بدران الأستاذ المتفرغ بحقوق القاهرة. والدكتورة نجوى خليل مدير مركز البحوث الجنائية والاجتماعية آنذاك، ووزيرة الشئون الاجتماعية لاحقا. وقد أشرف هؤلاء على جهد عشرات الخبراء والمحققين، وأعدوا تقريرهم خلال شهرين ونصف الشهر، وقدموه إلى رئيس الوزراء آنذاك الدكتور عصام شرف (فى 18/4/2011)، وقد نص التقرير فى مواضع عدة على ما يلى: تبين للجنة أن رجال الشرطة أطلقوا أعيرة مطاطية وخرطوشا وذخيرة حية فى مواجهة المتظاهرين أو بالقنص من أسطح المبانى المطلة على ميدان التحرير ــ إن إطلاق الأعيرة النارية لا يكون إلا بموجب إذن صادر من لجنة برئاسة وزير الداخلية وكبار ضباط الوزارة ــ تبين للجنة أن سيارات مصفحة للشرطة كانت تصدم المتظاهرين عمدا وتصيب أعدادا منهم ــ دلت شواهد وقرائن عدة على أن الشرطة استعملت القوة المفرطة فى مواجهة المتظاهرين (أورد التقرير خمس قرائن أيدت ذلك الادعاء).
فى التقرير كلام آخر مهم تعلق بالعديد من الأحداث التى وقعت آنذاك (موقعة الجمل وفتح السجون مثلا). وهذا الكلام يختلف بصورة جذرية عما تردد على ألسنة الشهود فى قاعة المحكمة، الأمر الذى كان يفترض أن يوضع بين يدى المحكمة التى نظرت القضية وهى تمحص الوقائع لتصدر حكمها العادل. لكن الذى حدث أن شهادات الإدانة حجبت كلها ولم يسأل الذين سجلوها بالتحقيقات والتحريات، فى حين استمعت المحكمة إلى وجهة نظر واحدة، عبرت عن القراءة اللاحقة للأحداث فى مرحلة ما بعد 30 يونيو. وهى القراءة التى صاغتها الأجهزة الأمنية بعدما استعادت دورها الذى تراجع بعد ثورة 2011. وظل شغلها الشاغل هو كيف يمكن تبرئة الشرطة من الجرائم التى وقعت أثناء الثورة، بعد دفن وإخفاء تقرير لجنة تقصى الحقائق الذى أدانها وحملها المسئولية عن كل تلك الجرائم.
لست فى وارد تحقيق المسألة، خصوصا أننى سبق أن آثرت الموضوع فيما وصفته حينذاك بأنه اختطاف للذاكرة (مقالة نشرت فى 5/6/2014) وقد أشرت فيها إلى دفن تقريرين لتقصى الحقائق، الأول الذى نحن بصدده وغطى مرحلة الثورة، والثانى غطى مرحلة حكم المجلس العسكرى وقد أعدته لجنة برئاسة المستشار محمد عزت شرباص نائب رئيس محكمة النقض. وقد تحدث الأول عن دور الشرطة، فى حين ركز الثانى على حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وخلصت مما سبق إلى أنه من المتعذر التعرف على حقائق هاتين المرحلتين فى ظل استمرار الأجواء الراهنة.
ما أريد أن أخلص إليه من استدعاء هذه الخلفية أننا فى مصر وغيرها من الدول التى يتراجع فيها سقف الحريات العامة، نقيم هياكل ومشروعات وأنشطة أفرزتها خبرة المجتمعات الديمقراطية. بمعنى أن تلك المجتمعات وضعت أساس البناء الديمقراطى أولا المتمثل فى إطلاق الحريات العامة وتحقيق الفصل بين السلطات والاحتكام إلى مرجعية المؤسسات والقانون، وليس أهواء الأفراد وأمزجتهم. ثم بعد ذلك تفرعت عن ذلك البنيان قيم وأنشطة عدة. بعضها يتعلق بقيام المجتمع المدنى وتحقيق التعددية السياسية وتداول السلطة والبعض الآخر يتعلق بحقوق الإنسان والبعض الثالث يتعلق بسيادة القانون واستقلال القضاء واستقلال الجامعات…إلخ. والأزمة الحقيقية لمجتمعاتنا تتمثل فى أننا نحاول أن نقيم تلك الهياكل ونفعل تلك الأنشطة بمعزل عن الأساس الذى يتعين إقامته أولا. كأننا نبنى «عمارة» بغير أساس. فنقبل برفع راية الديمقراطية ونحتفى بمنجزاتها فى غيبة قيمها ووظيفتها الحقيقية.
نموذج أحداث الثورة دال على ذلك. فحين ارتفع سقف الحريات عاليا أثناء الثورة وفى ظل الانتشاء بإسقاط النظام السابق عليها، قرئت الوقائع بصورة مستقلة، وتقصى حقائقها قضاة وخبراء محايدون أشادوا بالثورة واحتفوا بها فى تقريرهم. ولكن سقف الحريات حين انخفض جرى تجاهل كل ما سبق وأعيدت صياغة الأحداث على نحو مختلف تماما، روعيت فيه موازين القوى فى الوضع المستجد. الأمر الذى قلب الصورة رأسا على عقب أدى إلى اعتبار الثورة «مؤامرة»، وأحدث ذلك الانقلاب أثره فى تقارير الأجهزة الأمنية وتحقيقات النيابة وتقارير الطب الشرعى، وشهادة الشهود، الأمر الذى يفترض أن ينعكس بدوره على حكم المحكمة.
إن قضية الحريات العامة هى الأساس الذى ينبغى إرساؤه والدفاع عنه. وهى العنوان الذى ينبغى أن يحظى بأولوية وإجماع كل المناضلين. وما لم تتوفر تلك الحريات بضماناتها فإننا لا نستطيع ان نثق أو نطمئن إلى نزاهة مختلف الممارسات التى تجرى فى الفضاء السياسى والإعلامى أو حتى فى ساحات القضاء والنيابة. وذلك ما دفعنى إلى الاعتذار عن عدم الاستجابة للدعوة التى وجهت إلى للشهادة أمام لجنة تقصى حقائق أحداث 30 يونيو، إذ اعتبرت ان ذهابى هو نوع من تضييع وقت اللجنة ووقتى. خصوصا أنه توفرت لدينا خبرة تسمح لنا بأن نتنبأ بما ستخلص إليه تلك اللجنة، تماما كما حدث مع اللجنة القومية لحقوق الإنسان، التى أصبح بمقدورنا أن نلخص رأيها فى أى قضية قبل ان تشرع فى كتابته.