فهمى هويدى يكتب | عن الحقيقة الغائبة فى مصادر العنف
مشكلتنا مع العنف فى مصر مضاعفة، فقد كتب علينا أن نعانى من جرائمه وفرض علينا ألا نتعرف على حقيقة مصدره.
(1)
يوم الجمعة الماضى (28/3) قتل فى المظاهرات التى خرجت فى حى عين شمس بالقاهرة أربعة أشخاص، ركزت الصحف على اثنين منهم هما الصحفية ميادة أشرف وأخرى هى مارى سامح جرجس. يوم الأحد 30/3 خرجت الصحف برواية واحدة نسبت إلى شهود العيان قولهم إن خمسة أشخاص ملثمين ومسلحين ببنادق آلية كانوا بين المتظاهرين يتربصون بالصحفيين المكلفين بتغطية الأحداث، وفور مشاهدتهم للصحفية ميادة، تعقبها بعضهم وأطلقوا عليها الأعيرة النارية. وعن شهادتهم بخصوص مارى سامح قال الشهود أمام النيابة إن مؤيدى الإخوان عندما رأوا الفتاة وهى تستقل سيارتها وعلى يدها علامة الصليب، استوقفوا السيارة وأنزلوها منها ثم اطلقوا عليها الرصاص من الظهر.
هذه الرواية التى سجلتها أوراق النيابة ونقلت على ألسنة الشهود أيدها المتحدث باسم الطب الشرعى، فى حين عارضتها المعلومات التى تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعى التى تحدثت عن أن الشرطة هى التى أطلقت النيران على المتظاهرين مما أدى إلى مقتل الفتاتين. وذكرت أن زميلا للصحفية ميادة شهد بذلك. وكان مذيع قناة التحرير قد تبنى الرواية الأولى مساء اليوم ذاته فى بثه للخبر، وعلى الهواء طلب من أحد الصحفيين الذين اشتركوا فى متابعة المسيرة أن ينقل إلى المشاهدين حقيقة ما جرى. فقال صاحبنا ــ اسمه عبداللطيف صبح مراسل جريدة اليوم السابع ــ أن الشرطة هى التى أطلقت الرصاص على المتظاهرين مما أدى إلى سقوط القتلى. وهى ذات الرواية التى سمعتها من أحد الزملاء المصورين الذى قال لى إن المظاهرة كانت قد انهت مسيرتها فى سلام دون أن يعترض طريقها أحد، وأثناء انصراف المتظاهرين ظهرت قوات الشرطة التى أطلقت على المتظاهرين نيرانا كثيفة قتلت البعض وأصابت آخرين.
(2)
الذى حدث مع متظاهرى عين شمس يذكرنا بقصة الشهيد خالد سعيد الذى قتل بالإسكندرية فى السادس من شهر يونيو من عام 2010 على يد اثنين من رجال الأمن، ولكن الرواية الرسمية نفت عنهما التهمة، وذكرت ان الشاب كان سيئ السمعة ويتعاطى المخدرات وهارب من التجنيد، وان رجال الأمن حاولوا إلقاء القبض عليه للاشتباه فى تعاطيه للمخدرات ولكنه كان يحمل لفافة من نبات البانجو المخدر، وحاول ابتلاعها مما أدى إلى اختناقه ووفاته. وهذه الرواية استندت إلى شهادة بعض الشهود، وتحريات ضابط شرطة حى سيدى جابر وأيدتها تقارير خبراء الطب الشرعى. ولكن أسرته نفت كل ما قيل عنه واتهمت الشرطة بالضلوع فى قتله، وإزاء ذلك ذكرت بعض الصحف التى تبنت الرواية الأمنية انه سوف يتم التحقيق مع أفراد الأسرة بتهمة البلاغ الكاذب. ولأن شهودا آخرين ذكروا ان رجلى الأمن هما اللذان قتلا خالد سعيد، وتجمعت قرائن أخرى آنذاك أيدت تلك الرواية، فإن الحادث أثار حالة من الغضب دفعت بعض النشطاء إلى تأسيس صفحة خالد سعيد على الفيس بوك، للتنديد بسلوك الأجهزة الأمنية والتضامن مع مظلومية الشاب الشهيد، وانضم إليها مئات الألوف من شباب مصر الغاضب، الأمر الذى كان أحد المصادر المهمة التى فجرت ثورة 25 يناير 2011. القصة بعد ذلك معروفة، إذ لم يتوقف النشطاء عن المطالبة بإعادة التحقيق فى القضية. وحين تم ذلك بعد الثورة، تبين أن كل ما ادعته الداخلية بما فى ذلك تقرير الطب الشرعى لم يكن صحيحا، وكانت النتيجة انه تمت إدانة رجلى الشرطة وحكم عليهما بالسجن عشر سنوات فى حكم صدر فى 26/3/2014.
لدينا نموذج آخر معكوس تماما، فحادثة القتل سابقة الذكر وقعت فى أجواء هيمنة السياسة الأمنية أثناء حكم نظام مبارك. ولكن الثورة وفرت أجواء ايجابية أخرى أدت إلى الكشف عن الحقيقة وإدانة القتلة. أما النموذج الذى أعنيه فقد عرفت فيه الحقيقة فى ظل الأجواء الايجابية ذاتها، ولكن عودة السياسة الأمنية تجاهلتها وطوت صفحتها وفرضت خطابها الذى استعاد سيناريو الاتهامات الأولى التى وجهت عام 2010 ضد خالد سعيد حين وجهت إليه أصابع الاتهام وبرأت الجهاز الأمنى من دمه.
أتحدث عن تقرير لجنة تقصى حقائق أحداث الثورة فى الفترة ما بين 25 يناير حتى تنحى مبارك فى التاسع من فبراير عام 2011. هذا التقرير الذى نبهت إلى خطورته أكثر من مرة يكتسب أهميته من أمرين أساسيين هما: ان اللجنة التى أعدته رأسها المستشار عادل قورة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض، وضمت فى عضويتها نخبة من أبرز رجال القانون والبحث الجنائى، كما انها استعانت بعشرات الخبراء والمحققين، بما يعنى أنه توفرت لها ضمانات الحياد والنزاهة والاستقلال. الأمر الثانى أن اللجنة باشرت عملها فى مرحلة براءة الثورة وفى وجود المجلس العسكرى. حين كان نبض الثورة لايزال حيا وأشواقها فى مرمى البصر.
هذا التقرير الذى لايزال موجودا وان كان مدفونا ومحجوبا قرر ما يلى: ان رجال الشرطة أطقوا أعيرة مطاطية وخرطوشا وذخيرة حية فى مواجهة المتظاهرين أو بالقنص من أسطح المبانى المطلة على ميدان التحرير، خاصة من مبنى وزارة الداخلية ومن فوق فندق النيل هيلتون، ومن فوق مبنى الجامعة الأمريكية. وقد دل على ذلك أقوال من سئلوا فى اللجنة، ومن مطالعة التقارير الطبية التى أفادت ان الوفاة جاءت غالبا من أعيرة نارية وطلقات خرطوش فى الرأس والرقبة والصدر. على ان إطلاق الأعيرة النارية لا يكون بموجب إذن صادر من لجنة رئاسة وزير الداخلية وكبار ضباط الداخلية، يسلسل بالتدرج الرئاسى إلى رجال الشرطة الذين يقومون بتنفيذه.
على هذا المنوال الذى حمل الشرطة مسئولية العنف آنذاك. ورغم انه سلط أضواء قوية على مختلف الأحداث التى وقعت فى تلك الفترة، بما فيها موقعة الجمل واقتحام السجون المصرية، إلا أنه لم يؤخذ به فى جميع القضايا المتعلقة بتلك الأحداث.
(3)
حين دفن تقرير تقصى حقائق أحداث الثورة، وبعدما أصبحت تحريات الشرطة وتقاريرها هى التى تصوغ الوقائع وتكتب التاريخ فإن ما يصدر عنها أصبح المرجع الذى تستند إليه التحقيقات وتقارير الطب الشرعى وأحكام المحاكم، من ثم كان طبيعيا ان تتم تبرئة الأجهزة الأمنية من جرائم قتل الثوار فى نحو 40 قضية رفعت ضدهم. ولم يعد مستغربا ان تلقى بالمسئولية عن العنف على عاتق أى طرف باستثناء رجال الشرطة الذين أصبحوا دائما هم الضحايا والمجنى عليهم.
إزاء ذلك فإن وقائع وفصول المشهد السياسى أصبحت لها روايتان. واحدة رسمية تعبر عن وجهة نظر المؤسسة الأمنية وتتبناها وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمقروءة. والأخرى أهلية تنطق باسم المنظمات الحقوقية المستقلة وتتداولها وسائل التواصل الاجتماعى. الأولى تعبر عن الهوى السياسى وشبكة المصالح المرتبطة به. وهذه تخضع لتوجيهات إدارات التوجيه المعنوى التى تهتدى بمؤشرات البوصلة السياسية. أما الثانية فهى تحاول التعبير عن حيادها والالتزام بمواثيق الحقوق التى تتكئ عليها. بمعزل عن الخلاف السياسى.
التفاوت الصارخ بين الروايتين بات أكثر وضوحا هذه الأيام. ذلك انه فى الوقت الذى تنفى فيه الداخلية ومعها المؤسسة الأمنية وقوع أى تعذيب فى السجون وأقسام الشرطة، فإن شهادات النشطاء التى تملأ صفحات الفيسبوك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعى كذبت ذلك الادعاء على ألسنة الضحايا. وهو ما دعا 16 منظمة حقوقية مستقلة فى مصر لأن تصدر بيانا فضح ذلك السلوك بلغة غير مسبوقة. ناهيك عن تقارير المنظمات الحقوقية الدولية (امنستى وهيومان رايتس ووتش) التى عبرت عن ذات الموقف فى بيانات حفلت بالشهادات الدامغة.
الشاهد أنه فى مواجهة العنف الراهن أصبح الرأى العام فى أغلبيته الساحقة يسمع صوت المؤسسة الأمنية دون غيرها. وتحولت مختلف بقية مؤسسات المجتمع الرسمية وأبواقه الإعلامية بمثابة أبواق تردد ذلك الصوت، وكانت النتيجة ان الاستقطاب أصبح أكثر حدة وتوحشا. فالموالون أصبحوا هم الشعب وهم المواطنون الأصلاء. والمعارضون أو حتى المستقلون أصبحوا إما خونة وعملاء أو طابورا خامسا.
(4)
دخل الصراع فى مصر طورا جديدا فى شهر ديسمبر من العام الماضى، حين أعلن مجلس الوزراء جماعة الإخوان منظمة إرهابية، لأول مرة فى تارخيها (منذ عام 1928) وفى سابقة لم تعرف فى نحو 40 دولة انتشرت فيها الجماعة. ومنذ ذلك الحين أصبح كل عمل إرهابى وكل عنف يحدث فى أى مكان بمصر ينسب إليهم مباشرة. ومن المفارقات ان حادث تفجير مبنى مديرية أمن القاهرة الذى كان السبب فى اعتبارهم جماعة إرهابية، تبنته جماعة أنصار بيت المقدس، وهو ما حدث مؤخرا حتى قتل ستة من الجنود فى «مسطرد» بمحافظة القليوبية، وبعد عشر دقائق من إعلان النبأ ذكر المتحدث الرسمى باسم القوات المسلحة ان الإخوان قاموا به، فى حين ان أنصار بيت المقدس أعلنوا عن مسئوليتهم عنه، وذلك نهج أدركت خطورته، لخمسة أسباب أوردتها فى مقالة الثلاثاء الماضى (25/3)، التى دعوت فيها الإخوان إلى إعلان يحسم موقفهم من قضية العنف، ويؤكدإبراء ذمتهم أمام الرأى العام، وأضيف إليها الآن سببا سادسا يتعلق بخشيتى من أن يؤدى استمرار تحميلهم بالمسئولية عن العنف ان يضع مصر على مشارف حرب أهلية سيكون الوطن هو الخاسر الأكبر فيها، كنت أعلم ــ وأشرت فيما كتبت ــ ان متحدثين باسم الإخوان حينا والتحالف من أجل الشرعى فى حين آخر حرصوا على النأى بأنفسهم عن حوادث العنف التى وقعت باستنكارها وإدانتها. وتمنيت أن يعلن بيان فى الظروف الراهنة باسم قيادات الإخوان حتى المسجونين منهم يمهد الطريق لحلحلة الأزمة أملا فى فتح الباب لحلها. إلا أننى تلقيت ثلاثة أصداء. أهمها ما صدر عن عقلاء الإخوان الذين رد بعضهم على فى مقالات مكتوبة (الدكتور جمال حشمت المتحدث باسم الجماعة والسيد حسن القبانى منسق حركة صحفيين من أجل الإصلاح) كما تلقيت نصوص بيانات صادرة عن الجماعة وأخرى عن التحالف تعلن رفض العنف والحرص على استمرار سلمية الصراع. منها بيان اعتبر قتل الجنود فى مسطرد عدوانا إجراميا، وآخر اعتبر العدوان على كنيسة الوراق مصيبة وحادثا إجراميا. وفيما تلقيت من نصوص فإن الإخوان والتحالف حملوا أجهزة الأمن مسئولية ممارسة العنف، واتهموا الإعلام الموجه بالإصرار على تشويههم، من ناحية ثانية، هاجمنى بعض شباب الإخوان واتهمونى بإهدار دماء الضحايا وبيعهم. وقرأت تعلقيات لبعض المتعصبين الموالين الذين اعتبروا كلامى جزءا من مؤامرة الإخوان وتنظيمهم الدولى. ولم يكونوا مستعدين لفكرة ان يحترم المرء الآخر وان يحتفظ باستقلاله ويظل واقفا بعيدا عن الطوابير المتراصة.
اننى لا أدعو أحدا إلى نسيان جراحه. أو التخلى عن موقفه السياسى، لكننى دعوت لأن يستمر الصراع سلميا وتمنيت ان نتطلع إلى المستقبل بأكثر مما ننشغل بالماضى، وان ننتصر للوطن بأكثر من حماسنا لهزيمة هذا الطرف أو ذاك، ومن لديه حل عملى يحقق هذه المعادلة فليدلنا عليه قبل فوات الأوان.