فهمى هويدى يكتب | فى حضرة أساطير المرحلة وأوهامها
فى مصر نزوع للترويج للأساطير السياسية التى زادت عن الحد وباتت تحتاج إلى تحرير وتفسير.
(1)
حين زار المشير عبدالفتاح السيسى ومعه وزير الخارجية موسكو هذا الأسبوع وعاد الاثنان فى آخر النهار، وصِفت الزيارة فى وسائل الإعلام المصرية على النحو التالى: مهمة تاريخية ــ منعطف فى السياسة الخارجية ــ قنبلة سياسية ــ صفعة لأمريكا ــ زلزال فى واشنطن ــ أوباما سيطلق على نفسه الرصاص ــ انقلاب فى موازين القوة ــ عودة استراتيجية عبدالناصر ــ خريطة جديدة للإقليم ــ خروج من التبعية لواشنطن ــ كسر احتكار السلاح الأمريكى…الخ.
ليس ذلك كله جديدا. فقد تفتحت أعيننا على خطاب استلهم ثقافة الأقدمين التى اعتبرت الفرعون «الملك الإله»، و«صانع المطر» و«ضابط النهر» وبمقتضى تلك الثقافة الموروثة فإن حاكم البلاد ظل دائما صانعا للتاريخ فى جولاته ولقاءاته وأحاديثه وخطبه، إذ تشكل كلها صفحات فى كتاب التاريخ، وقبل أن يصبح المشير السيسى رئيسا فإن خطابنا الإعلامى استبق، وأطلق على رحلته تلك الأوصاف، رغم أنها استغرقت أقل من يوم وتخللها اجتماعان لم يستغرقا أكثر من ثلاث ساعات تحققت فى ظلها تلك الخوارق، التى قد يسوغ البعض قبولها بعدما اعتبر الفريق السيسى من «رسل الله» الذين لا يستكثر وقوع المعجزات على أيديهم.
ماكينة صناعة الأساطير لم تقف عند التركيز على تاريخية الزيارة، وإنما نسجت عدة أساطير أخرى حول دلالاتها. فهى عندهم ــ كما رأيت ــ تمثل تحولا استراتيجيا وترسم خرائط جديدة فى المنطقة. وهى ثانيا خروج من بيت الطاعة الأمريكى ــ ثم إنها ثالثا صفعة للرئيس أوباما مرشحة لأن تدفعه إلى الانتحار. إلى غير ذلك من الاشارات التى تنطلق من اسطورة الصراع بين القاهرة وواشنطن ومناطحة نظام يوليو الجديد للقطب الأعظم فى العالم، وقد سبق أن ناقشت تلك الأسطورة من قبل وخلصت إلى أن بين مصر والولايات المتحدة حلفا استراتيجيا له أصول لا يُختلف عليها، وله هوامش فرعية تحتمل الاختلاف. والأصول تتمثل فى نقطتين جوهريتين الأولى تتمثل فى التسهيلات العسكرية التى تقدمها مصر للولايات المتحدة، المتعلقة بالمرور فى قناة السويس وباستخدام الأجواء المصرية، وبالتعاون الاستخباراتى بين الأجهزة المعنية فى البلدين. وتلك التسهيلات تقدم مقابل معونة سنوية تقدمها الولايات المتحدة لمصر تقدر بمليارين ومائة مليون دولار. النقطة الجوهرية الثانية تتعلق باتفاقية السلام مع إسرائيل التى تعتبرها واشنطن خطا أحمر فى سياستها الخارجية بالمنطقة. خارج هذا الإطار فاختلاف السياسات وارد، وهو حاصل بالفعل.
الذين تحدثوا عن التمرد المصرى على التبعية الأمريكية وعن الصفعة التى تلقتها واشنطن من خلال الزيارة، أو الانقلاب الذى افترضوه فى خرائط المنطقة، هؤلاء تناسوا أمورا وحقائق عدة. منها ان الحرب الباردة انتهت وان روسيا لم تعد خصما يصارع الولايات المتحدة، رغم أن علاقة التنافس بينهما واردة. منها أيضا ان العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة لاتزال قائمة لم يتغير فيها شىء، ومن ثم فإن التواصل مع موسكو لا يمثل تحولا استراتيجيا، لكنه يتم فى إطار الهوامش المفتوحة التى تستطيع السلطة المصرية أن تتحرك فيها بحرية، وتنشيط التعاون العسكرى بين مصر وروسيا يدخل ضمن تلك الهوامش، رغم اعتماد مصر بصفة أساسية على السلاح والنظم العسكرية الأمريكية، وهو مالا يسرنا بطبيعة الحال.
من الحقائق التى يتم التغاضى عنها أيضا أن صفقة السلاح الجديدة مع روسيا ممولة من جانب المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، حسبما أعلنت الصحف، وأى متابع للشأن السياسى يعرف جيدا عمق وتشابك العلاقات بين البلدين وبين الولايات المتحدة. ولا يخطر على باله أن تمول الدولتان صفقة سلاح يمكن أن توصف بأنها «صفعة» لواشنطن أو مساس بمكانة الرئيس الأمريكى الذى ادعى بعض صناع الأساطير أنه يوشك على الانتحار بسبب الصدمة التى تلقاها من القاهرة.
(2)
العالم تغير بعد الثالث من يوليو. تضيف الأسطورة أن التغيير الذى قاده وزير الدفاع وأدى إلى عزل الدكتور محمد مرسى وإسقاط نظامه وتعطيل دستوره أفشل قرارا دوليا تمثل فى خطة مشروع الشرق الأوسط الكبير بقيادة تركيا، هدفه إقامة خلافة إسلامية موالية للغرب تلحق الشرق الأوسط بحلف الأطلنطى. وبإفشال تلك المؤامرة فإن العالم انتقل إلى طور جديد أصيبت فيه السياسة الأمريكية بضربة موجعة.
تنطلق الأسطورة من فرضيتين، الأولى أن العالم العربى متمرد على الغرب وليس مواليا له ولذلك يتعين تطويعه وإعادته إلى بيت الطاعة مرة أخرى ــ والثانية أن ثمة قرارا دوليا يستهدف إجهاض ذلك التمرد، من خلال إقامة خلافة إسلامية تلحق الشرق الأوسط بحلف الأطلنطى. والفرضيتان بمثابة اختراع من صنع خيال أصحابه، أريد به تصور ما جرى فى دول الربيع العربى بأنه جزء من مؤامرة غربية كان الإسلام السياسى هو الأداة التى استخدمت فى تنفيذها. إذ فضلا عن الاعتبارات العملية القائمة على الأرض، التى تجعل من فكرة إقامة الخلافة حلما مستحيل التحقيق إلا فى ظل حرب تعيد رسم خرائط المنطقة، فإن العالم العربى فى وضعه الراهن لا يمثل أى خطر يهدد الولايات المتحدة أو المصالح الغربية، ناهيك عن أن الإسلام السياسى الذى يصور بحسبانه أداة تنفيذ المؤامرة أصبح يفرخ جماعات هى التى تهدد المصالح الغربية فى اليمن والعراق مثلا. وعلى مستوى الدول فإننا للأسف لا نكاد نرى دولة فى العالم العربى من أقصاه إلى أقصاه يمكن أن توصف بأنها متمردة على الولايات المتحدة، وإذا كان هناك خطر يهدد مصالحها فهو من التطرف الإسلامى بالدرجة الأولى.
من ناحية أخرى، فإن الذين تحدثوا عن ذلك القرار الدولى الوهمى لم يحددوا مصدره، وإذا اتجهت الأنظار إلى الولايات المتحدة باعتبارها المرشح الأكبر للقيام بذلك الدور، فإننا لا نكاد نجد أثرا لذلك المخطط فى أى وثيقة سياسية معتبرة. صحيح أن إدارة الرئيس بوش تبنت فى عام 2004 مشروع «الشروق الأوسط الكبير» الذى تصورت أن يضم الدول العربية كلها ومعها تركيا وإسرائيل وإيران إضافة إلى أفغانستان وباكستان، إلا أن الفكرة وئدت فى مهدها. كما ان الرئيس الإسرائيلى شمعون بيريز كان قد تبنى فكرة «الشرق الأوسط الكبير» التى طرحها فى كتاب صدر عام 1993 بنفس العنوان، لكنه كان يتحدث عن سوق مشتركة تنضم إليه وتقوده إسرائيل. وهذه أيضا ماتت قبل أن تولد. أما إقامة خلافة إسلامية بقيادة تركيا موالية للغرب وترتبط بحلف الأطلنطى فليس لها ظل من الحقيقة. وهى لا تعدو ان تكون أسطورة سياسية ودعائية جرى تفصيلها بأثر رجعى لتصفية حسابات مع تركيا ومع الدول العربية التى صوت أغلبية شعوبها لصالح الإسلام السياسى، واعتبار ذلك كله جزءا من المؤامرة مجهولة المصدر.
(3)
ثمة أسطورة أخرى شائعة تقول إن الدكتور محمد مرسى أطلق سراح الجهاديين الذين كانوا فى السجون المصرية، وأن هؤلاء استعادوا نشاطهم وتمركزوا فى سيناء وحولوها إلى قاعدة لإقامة إمارة إسلامية ترتبط بحركة حماس فى غزة. وقد أصبح هؤلاء مصدرا للعمليات الإرهابية التى استهدفت الجيش والشرطة وباتت تهدد الأمن القومى المصرى، وقد أعفانى الناشط والباحث الحقوقى المستقل حسام بهجت المدير السابق للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية من تحرير تلك الأسطورة وتفنيدها. ذلك أن موقع «صدى مصرى» نشر له هذا الأسبوع دراسة مهمة ومثيرة فاجأتنا بمعلومات نقضت الفكرة وكشفت عن التغليط والتزييف فيها.
فى دراسته أثبت أن ذلك الادعاء لم تطلقه وسائل الإعلام فى حملاتها التعبوية فحسب، ولكنه تردد أيضا على لسان وزير الداخلية وغيره من مسئولى الأجهزة الأمنية الذين تحدثوا فى أكثر من مناسبة عن الفكرة للادعاء بأن ثمة علاقة مباشرة بين القرار الذى اتخذه الدكتور مرسى وبين العمليات الإرهابية اللاحقة، بما يدعم اتهام الإخوان بأنهم أثناء وجودهم فى السلطة دعموا التطرف الدينى المسلح.
أشار الباحث إلى مؤتمر صحفى عقده وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم فى نهاية شهر نوفمبر الماضى (2013)، أعلن فيه عن إلقاء القبض على واحدة من أخطر البؤر الإرهابية التى ضمت 39 شخصا، يقودهم نبيل محمد المغربى الذى ذكر أنه أفرج عنه خلال فترة حكم الرئيس المعزول، إلا أن حسام بهجت اكتشف أن الرجل أفرج عنه فى 5 يونيو عام 2011، أى قبل عام كامل من انتخاب الدكتور مرسى رئيسا، وتم ذلك بموجب قرار صدر بالعفو عنه لأسباب صحية. وقد أصدر القرار النائب العام الأسبق عبدالمجيد محمود.
أمسك حسام بهجت بذلك الخيط وتتبع قوائم الجهاديين الذين تم الإفراج عنهم بعد تنحى مبارك عن الحكم، وبعد مراجعة وتحليل البيانات الرسمية التى تضمنت تلك القوائم، فإن النتيجة جاءت مخالفة بصورة جذرية عن الانطباع السائد والمقولات الرائجة. هكذا قال فى دراسته مضيفا أنه «بينما أصدر مرسى بالفعل قرارات بالعفو الرئاسى عن المئات، فإن أغلب هؤلاء كانوا من المتظاهرين الذين تمت محاكمتهم أمام القضاء العسكرى بعد الثورة. كما أنه أصدر بالفعل قرارات بالعفو عن بعض قيادات الجهاديين الذين تم اعتقالهم أثناء سنوات المواجهة مع السلطة فى تسعينيات القرن الماضى بسبب كونهم مجرد أعضاء أو متعاطفين. وبسبب عدم وجود أدلة على تورطهم فى أعمال إرهابية فإن أجهزة الأمن اكتفت باعتقالهم إداريا دون تقديمهم للمحاكمة».
أضاف صاحبنا أنه إزاء المظاهرات الغاضبة التى انطلقت ضد نظام مبارك، وفى ظل حكومة الفريق أحمد شفيق، أعلن اللواء محمود وجدى وزير الداخلية آنذاك عن سياسة جديدة للوزارة تقضى بإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين. وبعد أقل من شهر على تنحى مبارك أصدرت وزارة الداخلية بيانا ذكرت فيه أن قطاع مصلحة السجون قام منذ أول فبراير (2011) بالإفراج عن 904 معتقلين جنائيين و755 معتقلا سياسيا. وتم ذلك بناء على توجيهات علنية من الفريق شفيق وبمباركة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ذكرت الدراسة أنه فى طور لاحق أصدر المجلس العسكرى قرارات بالعفو عمن وصفهم «بالمحكوم عليهم سياسيا» وهؤلاء بلغ عددهم 103 أشخاص، كان من بينهم الشقيقان طارق وعبود الزمر المحكوم عليهما فى قضية اغتيال السادات، وبذلك بلغ عدد الإسلاميين الذين أطلق سراحهم قبل تولى الدكتور مرسى رئاسة البلاد هو 858 سجينا.
تحقق الباحث من أنه بعد تولى الدكتور مرسى منصبه لم يكن قد بقى فى السجون من الإسلاميين سوى أقل من خمسين شخصا، فى حين كانت السجون تكتظ بالشبان الذين قدموا إلى المحاكم العسكرية بعد الثورة. وقد أصدر الرئيس السابق قرارا بالعفو عن 645 من هؤلاء الأخيرين مرة، ثم عن 490 متهما منهم فى مرة ثانية. أما الإسلاميون فإنه أصدر قرارا وحيدا بالعفو عن 27 شخصا منهم، بينهم تسعة من قيادات الإخوان المتواجدين بالخارج (أحدهما سورى والآخر سعودى). أما الثمانية عشر اسما الباقون فقد كانوا من الجهاديين المدانين فى قضايا متنوعة من بينها محاولة اغتيال مبارك فى أديس أبابا وتنظيم العائدين من ألبانيا، ثم لم يصدر بعد ذلك أى قرارات عفو أخرى.
مما خلصت إليه دراسة الأستاذ حسام بهجت «أن جميع أسماء السجناء السابقين الذين اتهمتهم المصادر الأمنية بالعودة لممارسة الإرهاب خرجوا من السجون بقرارات من المشير طنطاوى بصفته رئيسا للمجلس العسكرى أو بأحكام أصدرها القضاء العسكرى».
(4)
أهمية الدراسة المثيرة الذى نشرت يوم 16/2 على موقع «صدى مصر» أنها تفتح الأبواب لدراسات جادة أخرى يقوم بها الباحثون الشرفاء حول قائمة أخرى من الأساطير الرائجة فى مصر، التى يتعلق بعضها بتهديد حركة حماس للأمن القومى المصرى أو بحكاية بيع قناة السويس أو حقيقة الدولة الدينية التى يقال إن الدكتور مرسى أقامها خلال العام الذى أمضاه فى السلطة وحقيقة الدولة المدنية التى بشرنا بها بعد عزله.
فى تفسير سيل الأساطير الذى انهمر علينا خلال الأشهر السبعة الماضية، لم أجد سوى التعليق البليغ الذى ذكره الأستاذ أحمد سيف الإسلام المحامى والحقوقى المعروف، حين سئل عما وراء إطلاق مثل هذه الأساطير، فكان رده: فتش عن الدولة العميقة.
المصدر:الشروق