فى الأسبوع الماضى ثار فى مصر جدل طريف حول تكييف العلاقة بين القاهرة وواشنطن. وأثير ذلك الجدل فى أعقاب تصريح وزير الخارجية السيد نبيل فهمى للإذاعة الحكومية الأمريكية (فى 30/4) الذى قال فيه إن العلاقة بين البلدين هى علاقة زواج شرعى، وليست نزوة لليلة واحدة، وفى حين سعت الخارجية المصرية على لسان المتحدث الرسمى إلى التخفيف من وقع العبارة بقوله إن الترجمة غير دقيقة وإنه أسيئ تفسيرها، فإن الطرف الأمريكى أبرز التسجيل الذى ورد فيه النص، ومن ثم انتقل الحوار من الجدل حول ما إذا كان الرجل قالها أم لا، إلى مناقشة مضمون العلاقة وهل العلاقة زواج شرعى أم عرفى أم أنها علاقة مصالح، ولم يخل الأمر من تعليقات الساخرين التى تساءلت عما إذا كان الزواج شرعيا حسب الشريعة الإسلامية، بما يعنى أنه يقبل التعدد، أم أنه زواج أرثوذكسى لا يقبل التعدد أو الانفصال إلا فى ظل فضيحة. وأعاد كثيرون إلى الأذهان تعبيرا مماثلا كان قد أطلقه فى عام 1940 وزير المالية الأسبق أمين عثمان باشا، الذى وصف العلاقة مع إنجلترا بأنها مثل الزواج الكاثوليكى، لا تقبل الانفصام، وهو ما أثار عاصفة من الاحتجاجات آنذاك لم تدم طويلا، لأن مصر كانت تحت الاحتلال الإنجليزى. أعنى أنه كانت هناك حالة على الأرض تحتمل إطلاق ذلك الوصف. وهو الأمر الذى اختلف فى عام 2014، ليس فقط لأن الدنيا تغيرت ولكن أيضا لأننا لا نعرف على وجه الدقة حقيقة الحاصل على الأرض فى العلاقة بين مصر والولايات المتحدة.
وجه الطرافة فى الموضوع أن ما شغل الكثيرين هو الصياغة اللغوية للعلاقة بين البلدين وليس الحالة السياسية الحاكمة لتلك العلاقة، فى ظل اللغط المثار حولها منذ عزل الرئيس السابق محمد مرسى من منصبه فى الثالث من يوليو الماضى (عام 2013)، ذلك أن عدم تأييد واشنطن للعزل بالصورة التى تم بها (لأسباب قانونية بحتة) فتح الباب لتعكير صفو الأجواء بين البلدين، حتى اتهمت الإدارة الأمريكية بالانحياز للإخوان وصارت الولايات المتحدة تصنف فى الخطاب الإعلامى الرائج باعتبارها «خصما» تتعين مواجهة. وفى هذه الأجواء اتهم الرئيس الأمريكى بأن له علاقة بالتنظيم الدولى للإخوان، وسربت أجهزة التوجيه المعنوى شائعات تحدثت عن ضلوع المخابرات الأمريكية فى تدبير المؤامرة ضد النظام الجديد. وجرى الحديث عن خطط لاغتيال المشير السيسى، الأمر الذى أثار انفعال البعض حتى قال أحدهم على شاشة التليفزيون إنه فى هذه الحالة سيتم اقتحام بيوت الأمريكيين وقتلهم، ليس فى مصر وحدها ولك حينما وجدوا فى أى مكان بالعالم(!).
الشاهد أنه بعدما تعددت رسائل التجاذب والغمز والهجاء فى الفضاء الإعلامى، خيم بعض الهدوء على علاقات البلدين. وفى تلك الأجواء زار بعض المسئولين المصريين واشنطن. ولاحت بوادر الانفراج حين قررت واشنطن تزويد مصر بعشر طائرات «آباتشى»، كما وافق الكونجرس على تسليم القاهرة جانبا من المعونات المالية، وإذ لاحت بوادر الوئام فإن توصيف العلاقة اختلف. فسكت الكلام عن اللَّعان والخصام ودخلنا فى طور الوداد والغرام، الذى فى ظله توجَّه وزير الخارجية نبيل إسماعيل فهمى بحديثه عن الزواج الشرعى بين البلدين، ومؤكدا على أن العلاقة أقوى وأعمق مما تبدو على السطح، وليست علاقة عابرة تنتهى بطلوع النهار، وذهاب كل طرف إلى حال سبيله.
ذلك كله حدث ولم يدلنا أحد على طبيعة العلاقة ولا عن تفسير تأرجحها بين الغرام والانتقام، كما لم يفسر لنا أحد لماذا ظلت قناة الاتصال مفتوحة بصفة دائمة فى أوج الحديث عن الخصام والتآمر الأمريكى طوال فترة شغل المشير عبدالفتاح السيسى منصب وزير الدفاع، وبين نظيره الأمريكى تشاك هيجل، حتى ذكر موقع البنتاجون أن الرجلين أجريا 31 اتصالا هاتفيا طول الأشهر التى أعقبت عزل الدكتور مرسى، بمعدل اتصال كل ستة أيام.
علامات الاستفهام المثارة حول طبيعة العلاقات بين القاهرة وواشنطن تشكل صفحة مهمة فى ملف السياسة الخارجية المصرية المسكوت عليه والمؤجل فى الخطاب السياسى المستغرق فى الشأن الداخلى، وفى ظل ذلك الاستغراق التبس على كثيرين موقف مصر بعد ثورة يناير إزاء قضية الاستقلال الوطنى ومنها التحالف الاستراتيجى مع الولايات المتحدة الذى أرساه السادات بشعار 99٪ من الأوراق فى يد الأمريكيين، ورسخه مبارك من بعده، وبمقتضى ذلك التحالف مُنِح الأمريكيون تسهيلات لاستخدام المجال الجوى والعبور فى قناة السويس وجرى تشبيك التعاون الاستخبارى بين البلدين، فى الوقت ذاته ظلت الأسئلة معلقة حول الموقف من اتفاقية السلام مع إسرائيل ومن القضية الفلسطينية وإزاء العالم العربى وأفريقيا، ووصل الالتباس إلى الحد الذى دفع البعض إلى الاعتقاد بأن حماس هى العدو وأن إسرائيل هى الصديق. وأن قائمة الخصوم الذين يهددون أمن مصر صارت تضم قطر وتركيا وإيران، وأن تهديد مصر صار مصدره جيش «حر» يأتى من ليبيا فى الغرب واختراق من غزة فى الشرق، وزحف من الجنوب عبر السودان.. إلى غير ذلك من الخرافات الدالة على غيبة الرؤية الاستراتيجية والخلل فى أولوياتها.
المخيف والمؤرق فى الأمر أن ذلك الخلل فى الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية يقابله غموض فى استراتيجية التعامل مع الداخل التى تعول على الأمن دون السياسة. وهو ما يضعنا بإزاء حالة سيولة تثير عديدًا من الأسئلة الحائرة التى تبحث عن إجابة دون طائل.