فهمى هويدى يكتب | مؤسسة الفساد تتحدى
من عجائب ومفارقات الثورة المصرية التى انطلقت ضد الاستبداد والفساد أنها بعد مضى ثلاث سنوات على نجاحها، قدمت خلالها نحو 5 آلاف شهيد، لم تحاسب أحدًا من المسئولين عن الاستبداد أو الفساد. فمبارك الذى كان رمزا للاثنين طوال ثلاثين عاما جرى تدليله فى محبسه، وأجريت له محاكمات فكاهية على اتهامات تافهة ثم تمت تبرئته فى نهاية المطاف. وما حدث معه تكرر مع بقية رجاله الذين حوكموا بنفس الطريقة الفكاهية وعوملوا بنفس الأسلوب، حيث ظلوا «باشاوات» فى السجون طول الوقت، ثم أطلق سراح أغلبهم واحدًا تلو الآخر، حتى الجرائم التى ارتكبت أثناء الثورة لم يحاسب عليها أحد. وكانت النتيجة أن كل الذين أجرموا فى حق البلد وفى حق الثورة غسلت أيديهم وبرئت ساحاتهم، وصاروا عند البعض «قيادات وطنية» تعرضت للظلم والافتراء من جانب الشباب الطائش والمتهور. كأنما أريد إقناعنا بأن الذين قاموا بالثورة هم الذين أخطأوا وأن الذين تسببوا فيها كانوا أبرياء ومجنيا عليهم.
الكلام أعلاه من وحى المؤتمر الصحفى الذى عقده المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات يوم الاثنين الماضى 17/2 وتحدث فيه عن استشراء الفساد فى صلب أجهزة الدولة ومؤسساتها المهمة والحساسة ومدى ضلوعها فى نهب ثروة البلد المالية والعقارية. وفيما فهمناه مما قاله الرجل فإنه حين لم يجد فى مصر برلمانا يحاسب وحين أدرك أن البيروقراطية المتحكمة صمت آذانها وامتنعت عن التحقيق فى بلاغات الجهاز فإنه لم يجد مفرا من مخاطبة الرأى العام من خلال وسائل الإعلام.
لقد أبرزت الصحف التى صدرت أمس تفصيلات المخالفات التى تحدث عنها المستشار جنينة ورصدها جهاز المحاسبات فى موازنة رئاسة الجمهورية فى عهد الدكتور مرسى، وهو ما يستحق التحقيق لا ريب، إلا أنها لم تكترث بالمعلومات الأخرى بالغة الأهمية التى تعلقت بأجهزة ومؤسسات الدولة الأخرى. لأن الأخيرة دلت على اتساع دائرة الفساد وتراكمه. من النماذج والحالات التى تحدث عنها المستشار جنينة ما يلى:
• إن أعضاء نيابة أمن الدولة العليا بالقاهرة والجيزة وهيئة الرقابة الإدارية ومسئولين مرموقين سابقين وحاليين استولوا على أراض فى الحزام الأخضر بمنطقة أكتوبر مساحتها 35 ألف فدان بالمخالفة للقانون، الأمر الذى ضيع على الدولة نحو 4 مليارات جنيه جراء تخصيص الأراضى لغير مستحقيها وبأسعار زهيدة.
• إن اللجنة المختصة بفحص مستندات المنطقة الخضراء منعت بأمر من النيابة من الاطلاع على 295 ملفا لشخصيات رؤى التكتم على أوضاعها، وأن مسئول جهاز المحاسبات المختص بالموضوع تلقى تهديدا حذره من عواقب الاستمرار فى أداء مهمته باعتبار أن من شأن ذلك تسليط الأضواء على فساد عدد من كبار المسئولين السابقين والحاليين.
• إن بعض مؤسسات الدولة رفضت التعامل مع جهاز المحاسبات، منها وزارة الداخلية، خصوصا أن الجهاز رصد مخالفات فى جهاز الأمن الوطنى وحده بقيمة مليارين ونصف مليار جنيه.
• إن بعض مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية مارست اعتداءات على مجرى نهر النيل وبعضها أقدم على ردم أجزاء منه وإقامة مبان خرسانية عليها. وقد قدرت المخالفات المتعلقة بنهر النيل بنحو 18 مليار جنيه.
• أعرب عن دهشته إزاء قيام وزارة العدل بإعداد مشروع للتصالح مع النيابة بشأن المخالفات التى وقعت خلال السنوات الثلاث الماضية، التى ضعف فيها دور الدولة جراء الظروف التى مرت بها البلاد. وهى فكرة خطرة لأن تلك الفترة شهدت اندفاعا من جانب كثيرين لمخالفة القانون والاعتداء عليه، ويشكل المشروع المقترح غطاء يسوغ تلك الانحرافات ويكافئ الانتهازيين والجشعين والمنحرفين.
• قدم جهاز المحاسبات 428 بلاغا للنائب العام عن مخالفات وانحرافات فى مختلف أجهزة الدولة. لكن النيابة لم تبت فى 265 بلاغا وحفظت 28 بلاغا اخر. كما قدم الجهاز 227 بلاغا مماثلا إلى جهاز الرقابة الإدارية فلم يبت فى 161 منها وحفظت الرقابة 17 بلاغا. فى الوقت ذاته فإن الجهاز قدم 65 قضية لجهاز الكسب غير المشروع فلم يبت إلا فى ثلاث فقط وتم حفظ 6 قضايا. ويتعذر العثور على تفسير برىء للتقاعس عن التحقيق فى تلك البلاغات والعزوف ليس فقط عن النظر فيها، وإنما أيضا عن إخطار جهاز المحاسبات بالأسباب التى أدت إلى تجاهلها وعدم البت فيها.
• تحدث المستشار جنينة عن الفساد فى مجال النقل البحرى، وعن المخالفات فى شركات النفط، وعن إسراف أجهزة الدولة فى تعيين المستشارين فى حين أن ذلك دور مجلس الدولة الذى يضم قسما للفتوى والتشريع. وأشار فى هذا الصدد إلى أن الـ 2906 مستشارين الملحقين بتلك الأجهزة تقاضوا أكثر من نصف مليار جنيه فى العام المالى الأخير منها 100 مليون و900 ألف منحت لمستشارين عينوا بعد بلوغ سن الستين.
لقد طالب رئيس جهاز المحاسبات كلا من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بتشكيل لجنة لتقصى حقائق الفساد المتفشى فى مختلف أجهزة الدولة، على غرار لجان تقصى حقائق الأحداث السياسية التى تشهدها مصر، وهو مطلب مهم استبعد الترحيب به لأن الفساد يضرب مصلحة البلد، فى حين أن الأحداث السياسية المشار إليها تمس مصلحة النظام، وفى الوقت الراهن فإن المصلحة الثانية مقدمة على الأولى.
حين وجدت أن المستشار جنينة يشير بأصابع الاتهام إلى مظان الفساد الكامن والمتراكم فى مختلف أجهزة الدولة، بما فيها تلك التى تعتبر نفسها فوق القانون، أدركت لماذا يلاحق الرجل بالاتهامات والمكائد وتصوب نحوه السهام التى تستهدف إزاحته من موقعه لإسكات صوته والخلاص من إزعاجه. ذلك أن مؤسسة الفساد المرتبطة بنظام مبارك لاتزال تحتفظ بعافيتها وبمنابرها. خصوصا ان الإنجاز الذى حققه ذلك النظام فى السياسة يغرى بمواصلة النجاحات فى مجالات أخرى.
المصدر:الشروق