فهمى هويدى يكتب | محاربة الإرهاب بالديمقراطية وليس بالسلاح
(1)
أتحدث عن الاجتماعات التى عقدت فى جدة يوم 11/9 وفى باريس يوم 15/9، والتى قيل ان 40 دولة شاركت فيها للتصدى لخطر داعش باعتباره رمزا لإعصار الإرهاب الذى ضرب المنطقة. وهى الاجتماعات التى أثيرت فيها وبعدها مجموعة من الأسئلة حول من سيشارك من الجو ومن سيقاتل على الأرض، وهل ستكون المشاركة بالجند والسلاح أم بالتسهيلات والمعلومات. إلى غير ذلك من التفاصيل التى غاصت فى الفروع وتجاوزت الأصول والجذور.
قبل أن استطرد فإننى لا استطيع أن أتجاهل المفارقة التى صرنا بصددها، حين وجدنا أنفسنا بعد ثلاث سنوات قد انتقلنا من التحليق فى آفاق الحلم، وارتطمنا بتجليات الكابوس. بل ان ما بدا آنذاك (فى عام 2011) انه ربيع عربى أيقظ أشواق التغيير وأشاع قدرا هائلا من التفاؤل بالمستقبل، أصبح يصور الآن من قبل البعض بحسبانه لعنة حلت بالأمة حتى أصبح يشار إليه باعتباره خرابا عربيا عند الحد الأدنى، ومؤامرة عند الحد الأقصى. بل صار فعل الثورة يوصف بأنه خطيئة وجريمة ويورد المشاركين فيه موارد الشبهة والاتهام.
لن اختلف مع من يقول بأن الربيع العربى لم ينته، وان ما نحن بصدده هو جولة فى مسار له ما بعده، ولعلى كنت أحد القائلين بذلك. لكن ذلك لا ينبغى أن يغير من حقيقة توصيف المرحلة التى نحن بصددها، والتى أشرت فى مقام آخر أى أنها من تجليات ربيع الثورة المضادة. ذلك ان السؤال المطروح الآن لم يعد كيف نوفر العيش فى ظل الحرية والكرامة الإنسانية، وهى الشعارات التى رفعتها الثورة المصرية فى 25 يناير عام 2011، والتى ما عادت تذكر الآن. وانما بات الشاغل الأكبر للجميع هو كيف نواجه الإرهاب ونتصدى للتطرف بكل أشكاله. ولا تفوتنا هنا ملاحظة ان الشعب ممثلا فى طلائعه التى ثارت هو الذى رفع الشعارات سابقة الذكر، فى حين ان أغلب الانظمة العربية والحكومات الغربية هى التى رفعت رايات الحرب ضد الإرهاب وطوت صفحة الشعارات الأولى مؤيدة فى ذلك ببعض عناصر النخبة وأبواق الإعلام.
(2)
حين انتقلنا من الحلم إلى الكابوس صار شعار المرحلة هو: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد الإرهاب. وقدم الإرهاب باعتباره مشكلة الحاضر والمستقبل والعرب والعجم والعقبة الكأداء التى تهدد الاستقرار والتقدم والحضارة الإنسانية بأسرها. وظهرت حركة داعش (الدولة الإسلامية فى العراق والشام)، لكى تجسد كل تلك المخاطر وتعتبر دليلها الدامغ. ولم تقصر الحركة فى تثبيت هذه الفكرة، وانما وفرت كل ما يدل عليها بالصوت والصورة. لكن أحدا لم يسأل من أين جاءت داعش؟ ومن وراءها؟ وهل كل الآخرين دواعش؟
ان الحرب ضد إرهاب «داعش» التى يجرى التحضير لها الان تكاد تكرر تجربة الحرب التى قادتها الولايات المتحدة ضد تنظيم القاعدة ولم ينس أحد وقائعها، لكن يبدو ان الجميع ــ بمن فيهم واشنطن ــ نسوا درسها. ومن المفارقات ذات الدلالة ان الاجتماع التنسيقى لإعلان الحرب ضد «داعش» تم فى جدة يوم 11 سبتمبر، فى ذكرى غارة القاعدة على برجى مركز التجارة العالمى فى منهاتن (عام 2001) الذى دفع واشنطن إلى إعلان حربها ضد إرهاب القاعدة. ومن ثم احتلال أفغانستان وغزو العراق فى عام 2003.
لقد كان السلاح هو الوسيلة الأساسية التى استخدمت لمواجهة القاعدة، وظن الرئيس الأمريكى آنذاك ــ جورج دبليو بوش ــ ان المهمة قد اكتملت وانه انتصر فى المعركة. وفى المواجهة تم تجاهل البيئة الاجتماعية والثقافية التى خرجت منها القاعدة وانتهت بتحالفها مع حركة طالبان. كما وظفت بعض الأنظمة حينذاك شعار الحرب على الإرهاب لقمع وتصفية وحركات المعارضة على أراضيها بمباركة من الجميع. وانتهى الأمر بسقوط نظام طالبان وضرب تنظيم القاعدة وقتل بن لادن، لكن الإرهاب لم يتوقف، وتحولت القاعدة من تنظيم جرى اضعافه إلى فكرة انتشرت فى أماكن عدة وترددت أصداؤها فى آسيا وأفريقيا ودول المغرب العربى، التى لم يتوقف فيها العنف المسلح تحت مسميات عدة كان الجهاد أبرزها. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، لأن البذرة وجدت بيئة وتربة مواتية فى العراق، فاستنبتت جماعة داعش، التى غدت نموذجا اسوأ وأكثر شراسة وأبعد طموحا من القاعدة ومن طالبان.
لست أشك فى ان التحالف العسكرى المفترض يمكن ان يقوض أركان دولة داعش. وان يدمر قواعدها ويقضى على قادتها وفى المقدمة منهم «الخليفة» أبوبكر البغدادى، لكن السلاح لن يستطيع بسهولة ان يقضى على المشروع أو الفكرة، لسبب جوهرى انه قد يبيد الشجرة ولكنه سيقف مكفوف الأيدى وعاجزا أمام الفكرة والتربة.
بكلام آخر، فداعش ليس تنظيما أو مجموعة هبطت فجأة على الأرض العراقية، لكنها ثمرة تفاعل عناصر عدة، المعلوم منها تداخل فيه غضب أهل السنة مع أشواق بعض المتدينين والصوفية مع بصمات الطبع العراقى مع حنين بقايا جيش صدام حسين، أما غير المعلوم فالاحتمالات فيه مفتوحة على مصارعها ودور أجهزة المخابرات فيها لا ينكر. ان شئت فقل أن خلفية داعش تكمن فيها عوامل عدة اجتماعية وطائفية وسياسية وثقافية. وهذه كلها لا تصيبها الصواريخ ولا تستطيع ان تصل إليها طائرات «درون» من غير طيار. ذلك انها عوامل ثابتة تتحدى أى تحالف عسكرى مهما بلغت قوته. الأهم من ذلك انها ليست كلها سلبية لانها لا تخلو من ايجابية، ويظل التحدى الاجتماعى والسياسى هو كيف يمكن انضاج ما هو ايجابى وتطويق ما هو سلبى. وذلك لا يتم إلا من خلال عمل سياسى وثقافى ولا يجدى فيه العمل العسكرى، الذى يمكن ان يثمر نتيجة عكسية، بحيث يعزز مكانه ما هو سلبى ويحاصر ويقطع الطريق على ما هو ايجابى.
(3)
ما الذى جرى للعالم العربى؟ ــ كان ذلك سؤال الموضوع الرئيس لمجلس الإيكونوميست البريطانية الذى صدر فى الخامس من شهر يوليو الماضى. وكان عنوان الغلاف هو: مأساة العرب. ذكَّر تقدير المجلة القارئ الغربى بأن بغداد ودمشق والقاهرة كانت يوما ما منارات العلم والمعرفة والتقدم فى العالم. كما ان الإسلام اقترن بالإبداع والتسامح وحرية الاعتقاد والتجارة، ولكن ذلك كله انقلب رأسا على عقب الآن، بحيث ساءت سمعة عالم العرب وعواصمه، كما شوه الإسلام وأصبحت الصورة التى يطالعها العالم عنه مثيرة للنفور والاشمئزاز، بوجه أخص فإن التقرير وصف بالتفصيل ما جرى فى العالم العربى فى أعقاب السنوات الثلاث الأخيرة (ابتداء من عام 2011) وكيف ان الآمال التى كانت معقودة على انطلاقة نحو المستقبل تراجعت واحدا بعد الآخر، ولم ينج من ذلك التراجع سوى دولة واحدة هى تونس، التى احتفظت بزخم الثورة ولاتزال تتمسك بالمسار الديمقراطى.
تحدث التقرير عن القلق ومخاوف الأقليات وعدم الاستقرار فى العالم العربى، وكيف ان ذلك كله إذا كان قد ظهر فى بعض دول «الربيع» التى تغيرت فيها الأنظمة، إلا أنها تشمل أيضا الدول النفطية الغنية، التى توحى ظواهر الأمور باستقرارها. ذلك ان تلك الدول الأخيرة إذا كان قد عم فيها الاشباع والوفرة الاقتصادية، إلا انها تعانى من الحاجة الملحة إلى الإصلاح السياسى، الذى تقاومه بشدة الأنظمة المحافظة المهيمنة.
من الملاحظات المهمة التى سجلها التقدير ان صوت التطرف عال ومسموع فى العالم العربى، لكن صوت الاعتدال خافت فى حين ان المجتمع المدنى هش ولا حضور يذر له. الأمر الذى لا يوفر فرصة كافية للتفاؤل بمستقبل الاستقرار والديمقراطية فى العالم العربى.
(4)
تقرير مجلة الإيكونوميست يبدو وكأنه استطلاع يؤيد ما ذهب إليه العلامة عبدالرحمن الكواكبى (1854 ــ 1902) فى كتابة طبائع الاستبداد. وهو الذى أرجع كل مفاسد المجتمع وشروره إلى شيوع الاستبداد وغياب الديمقراطية بتعبيرنا المعاصر، ذلك ان تقرير المجلة البريطانية خلص إلى ان مشكلة العالم العربى الحقيقية تكمن فى افتقاده إلى الإصلاح السياسى الذى يعلى من شأن قيم المساواة والمشاركة والتعددية السياسية والشفافية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون …إلخ.
أدرى ان هذا التحليل يصعب القبول فيه فى الأجواء العربية الراهنة. وان المحتشدين فى اجتماعات جدة أو باريس أو أى اجتماعات إقليمية أخرى على استعداد للذهاب إلى أبعد مدى فى الحرب ضد الإرهاب، الذى يبدأ بداعش وينتهى بأى معارضة سياسية داخلية، إلا انهم على غير استعداد للتقدم خطوة واحدة باتجاه الإصلاح السياسى أو الديمقراطى. بل لعلى لا أبالغ إذا قلت الدول الأكثر حماسا لمواجهة الإرهاب فى العالم العربى هى ذاتها التى تعارض الإصلاح السياسى وتتقدم صفوف الثورة المضادة.
لا اعرف عاقلا يمكن ان يدافع عن الإرهاب أو يبرره. خصوصا إذا تم التعامل معه فى حدود كونه عملا يتوسل بالعنف والتخويف لفرض الرأى بالإكراه على الآخرين. لكن الحوار الذى نحن بصدده يتلمس الطريق نحو اتباع أفضل السبل وأنجحها لمقاومة الإرهاب. من هذه الزاوية يرشح الإصلاح السياسى والتطبيق الديمقراطى كمدخل رئيسى ووحيد لتحقيق تلك الغاية. ومعلوم ان ذلك ليس من شأنه بالضرورة القضاء على الإرهاب، لكن الذى لا شك فيه انه يقلص من وجوده ويبطل الكثير من الذرائع المؤدية إليه.
ان داعش ومشروعها وأى مشروع آخر من جنس ما تنادى به وتتبناه لا يقضى عليه بأى تحالف عسكرى، لكنه يمكن ان يختنق ويموت فى بيئة ديمقراطية من شأن قيمها ان تذوب وتهذب حدة التجاذبات والتقاطعات الاجتماعية والطائفية وحتى السياسية والثقافية. لكن ذلك كله يحتاج إلى بيئة مواتية تختلف عن تلك المسكونة بالمرارات والمظالم المخيمة فى العالم العربى.
ان طريق السلامة بيِّن وطريق الندامة ابين، وعلينا ان نختار: اما ان نواجه الإرهاب بالإصلاح السياسى والديمقراطية، أو نواجهه بالصواريخ والمدرعات وطائرات درون. وسالك الطريق الأول يذهب ويعود سالما وغانما، أما سالك الطريق الثانى فهو ذاهب إلى مغامرة لا نعرف كيف سيرجع منها.