مجموعة سعودي القانونية

فهمى هويدى يكتب | من شان الله

فهمى-هويدى

لا يكاد يصدق المرء ان تلوح إرهاصات ثورة الفلسطينيين فى القدس، ردا على تصاعد مؤشرات التحدى والغطرسة الصهيونية، ويتطور الأمر إلى صدامات تتزايد أعداد ضحاياها يوما بعد يوم، ثم لا نرى لكل ذلك صدى فى الفضاء السياسى العربى. صحيح أن ثمة هموما وأوجاعا أخرى فى العالم العربى شغلت أهل السياسة والنخب الملتحقة بها، لكننا نعرف أن الوجع الأكبر عادة ما يطغى ويتقدم على الوجع الأصغر. وإلى عهد قريب كان مستقرا لدنيا أن الاحتلال الإسرائيلى هو الوجع الأكبر وان فلسطين هى القضية المركزية فى العالم العربى، لكن الرياح الملوثة التى هبت على العالم العربى أخيرا أحدثت انقلابا فى الأولويات بقدر ما شوهت من الإدراك العام، الأمر الذى حول الاحتلال إلى حليف لدى البعض، وصنف الفلسطينيين ضمن الإرهابيين الذين يهددون الأمن لدى آخرين، بل ان كلمة المقاومة أصبحت تقابل بالامتعاض والاستنكار لدى بعض الدوائر، وغدا مصطلح القضية المركزية تعبيرا ينتمى إلى الفوكلور السياسى والتراث الذى خلفته عصور خلت وبادت.

لحظة الضياع والذهول والانكفاء التى استسلم لها العالم العربى بقدر ما غيبت العقل السياسى لدى الأنظمة والنخب، فإنها أيقظت لدى الإسرائيليين نهمهم الوحشى ليس فقط لتصفية القضية وإنما أيضا للانقضاض على القدس وافتراسها ومحو معالمها، بحيث لا يبقى فيها شىء من مقدسات المسلمين والمسيحيين، ذلك انهم لم يكتفوا باغتصاب الجغرافيا، وإنما انفتحت شهيتهم لاغتصاب التاريخ أيضا.

فى الآونة الأخيرة كان المسجد الأقصى والحرم القدسى هدفا ركز عليه المتطرفون واستخدمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ورقة للمزايدة وكسب تأييد أحزاب اليمين. فقد تعددت اقتحاماتهم للحرم القدسى فى ظل حماية الشرطة. وبذريعة الأمن جرى إغلاق المسجد الأقصى فى وجه المصلين. وقدم إلى الكنسيت مشروع للتقسيم المكانى والزمانى للمسجد الأقصى والحرم القدسى، فى استعادة للجريمة التى وقعت بحق الحرم الإبراهيمى فى الخليل قبل نحو 18 عاما، حين قسم بين المسلمين والصهاينة، ثم خطط المستوطنون لإقامة مشروعات استيطانية جديدة فى قلب الحرم الإبراهيمى وفى القدس الشرقية. وليس خافيا على أحد أن التقسيم المراد إجراؤه للحرم القدسى بمثابة مقدمة ووسيلة التفافية لهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه. ليس ذلك فحسب، وإنما قدم نائب رئيس الكنيست اقتراحا فى مطلع العام الحالى لفرض السيادة الإسرائيلية على المدينة كلها، بما فيها المؤسسات الإسلامية والمسيحية، الأمر الذى من شأنه نزع تبعية المسجد الأقصى والحرم لوزارة الأوقاف الأردنية ونقل التبعية للحكومة الإسرائيلية.

هذا التصعيد توازى مع إجراءات أخرى استهدفت نزع ملكية الأراضى واقتحام بيوت العرب والاستيلاء عليها بأوراق مزورة، واختراق الأحياء العربية لتغيير هويتها (وزير الإسكان الإسرائيلى اورى ارئيل انتقل للعيش فى حى سلوان بالقدس القديمة فى خطوة استفزازية وتحد لسكانه العرب). وتحسبا لمواجهة ثورة العرب فى المدينة فقد تم تشكيل قوة أمنية جديدة حملت اسم «حراس الأسوار» مهمتها الأساسية قمع الغضب العربى وملاحقة المتظاهرين، الذين عدل القانون لأجلهم، حتى أصبح يعاقب بالسجن مدة 20 عاما كل من اشتبك مع الشرطة وقذفها بالحجارة.

هذه الإجراءات كان لها صداها السريع فى أوساط السكان العرب الذين تتوزع عليهم درجات مختلفة من الغضب لأسباب مفهومة، فتظاهروا واشتبكوا مع الشرطة وقذفوها بالحجارة وزجاجات المولوتوف. ودهس أحدهم فى القدس ضابط شرطة إسرائيلى فقتله وأصاب 14 آخرين، ودهس آخر مجموعة أخرى من الجنود فى الخليل. الأول (إبراهيم العكارى) قتل والثانى هرب وتعذر التعرف عليه، وفى عكا طعن مستوطن بسكن شاب عربى وأمطرت بالحجارة حافلة استقلها مستوطنون الأمر الذى أدى إلى إصابة بعضهم إصابات خطرة. هذه الحوادث كان لها صداها فى الوسط الإعلامى حيث تحدثت الصحف الإسرائيلية عن مقدمات انتفاضة ثالثة، فى حين انفعل وزير الأمن الداخلى ودعا فى تصريح علنى ودعا إلى قتل أى عربى يشارك فى الصدامات.

غضب فلسطينيى الداخل مفهوم، لكن حصار الغضب وقمعه فى الضفة بدا معيبا وغير مفهوم. أما الذى بدا مستغربا فكان عدم الاكتراث بتلك التفاعلات الذى لوحظ فى مواقف الحكومات والجامعة العربية بل وفى محيط القوى السياسية العربية، استثنى من ذلك عمان التى ربما كانت العاصمة العربية الوحيدة التى عبرت عن تضامنها مع الغضب الفلسطينى المتأجج فى الداخل.

قرأت انهم هتفوا فى القدس مخاطبين اخوانهم فى الضفة ومتلهفين على انتفاضتهم قائلين: من شان الله ــ يا ضفة يلَّه (أى بحق الله هُبُّوا) ــ وفى التقارير انهم فى مظاهراتهم وجنازاتهم هتفوا: عالمكشوف عالمكشوف صهيونى ما بِدِّنا نشوف ــ يا قدساوى دوس دوس ع المتجند والجاسوس ــ دم الشهيد بينادى حرة يا أرض بلادى ــ زغردى يا أم الشهيد واحنا أعلنا التصعيد ــ قولوا لكلاب البوليس دم العربى موش رخيص …إلخ.

إذا سألتنى لماذا لم نسمع صوت المتظاهرين فى أنحاء العالم العربى فربما وجدت الإجابة فى المثل العربى الذى يقول: الخيول المخصِيَّة لا تصهل! ــ ومن لديه تفسير آخر فليدلنى عليه.

 

المصدر:الشروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *