فهمى هويدى يكتب | موت صحافة الخبر
قبل أسبوعين أعلنت الصحف المصرية أن المشير عبدالفتاح السيسى سيعلن خلال ساعات قراره الخاص بالترشح لرئاسة الجمهورية، لكن الساعات مرت ولم يعلن شيئا، وبعد أن فوضه المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى اتخاذ قراره بهذا الشأن توقع الجميع أن يعلن الرجل موقفه لكنه لم يفعل، وبعدما رقى إلى رتبة مشير تصور كثيرون أن قراره صار على وشك الصدور، لكن ذلك لم يحدث أيضا ومع كل تأجيل تنتشر الشائعات فى مصر حول أسبابه وخلفياته. وتتركز الشائعات حول ما جرى فى اجتماعات قادة القوات المسلحة، فمن قائل أن ثمة تيارا لايزال يتوجس من انغماس الجيش فى العمل السياسى بصراعاته وتجاذباته، وهى الفكرة التى كان المشير السيسى قد حذر منها فى وقت سابق. ومن قائل أن هناك أكثر من وجهة نظر تتعلق بترتيبات شغل المناصب الكبرى فى القوات المسلحة بعد خروج السيسى وأن موضوع وزير الدفاع ليس محسوما تماما. وأفتى آخرون بأن الأمر لابد أن يحسم قبل يوم 18 فبراير الذى يفترض أن يعلن فيه فتح باب الترشح للرئاسة. ويتعين على السيسى فى هذه الحالة أن يعلن موقفه ويسجل اسمه فى جداول الناخبين قبل ذلك التاريخ، لأن القانون يغلق باب التسجيل بمجرد فتح الباب، إلا أننا فوجئنا يوم الأربعاء 5/2 بجريدة كويتية تعلن على لسان المشير قراره بالترشح، وهو ما أثار سيلا من الشائعات حول السبب فى عدم إعلان القرار فى الصحف المصرية، إلا أن نفى الخبر فى القاهرة على وجه السرعة أوقف الشائعات مؤقتا.
الشاهد أننا فى الشأن السياسى أصبحنا نسمع من الشائعات أكثر ما نعرف من الأخبار. ذلك أن ما حدث مع موضوع السيسى تكرر مع ملف التعديل الوزارى الذى تأجل أكثر من مرة. وتحدثت الشائعات عن ثمانية وزراء سيخرجون من الحكومة ثم قيل إنهم ثلاثة فقط. ورجحت الشائعات أن يكون الأمر مرتبطا بقرار المشير باعتباره وزير الدفاع. غير أن الشائعات لم تفسر الخروج المبكر لنائب رئيس الوزراء ووزير التعاون الدولى الدكتور زياد بهاء الدين، وهل كان ذلك راجعا إلى اختلافه حول بعض السياسات، أم إلى استيائه من السهام والانتقادات التى وجهت إليه وغمزت فى قناته وشككت فى علاقته بالدكتور محمد البرادعى التى باتت تهمة وسُبَّة.
يلفت النظر ذلك الغموض الذى يحيط بدائرة القرار السياسى. ولست واثقا مما إذا كان ذلك راجعا إلى عوامل الحيرة وعدم اليقين التى تكتنف التفاعلات داخل تلك الدوائر. أم أنها من تقاليد الإدارة العليا فى مصر، التى تعتبر السياسة ملكا للرئاسة ولا شأن للرأى العام بها، أم أنها من بصمات عسكرة النظام التى تعتبر كل أنشطة العسكر أسرارا لا يجوز للأغيار الاطلاع عليها. أيا كان الأمر فالشاهد أن المجتمع انفصل عما يجرى فى طوابق السياسة العليا. حتى فى شأن الوضع المستجد الذى يفترض أنه مقبل عليه. ذلك أننا مثلا بصدد الدخول فى انتخابات رئاسية بعد 45 يوما، ولا أحد يعرف من هم المرشحون وما هى برامجهم التى على أساسها سنحدد موقفنا من كل منهم. ولئن قيل إن المشير السيسى هو المرشح الفائز، إلا أن ذلك تقدير مبنى على الانفعالات العاطفية وحدها ولا يستند إلى أى تقييم موضوعى. حيث لا سبيل إلى إحداث ذلك التقييم قبل أن يطرح علينا الرجل تصوره وبرنامجه الذى يدعونا إلى التصويت لصالحه.
ذلك موضوع مهم لا ريب تستدعيه القرائن والمقدمات المرئية، لكنه ليس وحده الذى همَّنى فى أجواء الغموض الراهنة التى أصبحت الشائعات فيها هى البضاعة الرائجة، حتى بدا وكأن سوق الأخبار قد جبر ــ كما يقال ــ بكلام آخر فإنه إذا كان ما ذكرت يدخل فى باب القراءة السياسية، إلا أننى معنى بزاوية أخرى مهنية فى الموضوع، ألخصها فى الإدعاء بموت صحافة الخبر فى مصر، واتجاه الصحف إلى الاعتماد على مقالات الرأى، فى عودة إلى ما كانت عليه الصحف فى أربعينيات القرن الماضى، وتلك مسألة تحتاج إلى بعض التفصيل.
ذلك أن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن ثورة الاتصالات أتاحت للجميع أن يتابعوا الأخبار عن غير طريق الصحف التى تراجع توزيعها فى العالم كله، مما اضطر بعضها للتحول إلى الصحافة الإلكترونية، إلا أن الأزمة فى مصر مضاعفة، ذلك أن فقر الأخبار شمل الجميع، الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة، وكانت النتيجة أن التليفزيون أصبح يعتمد فى الشأن السياسى على البرامج الحوارية الموجهة. كما ان الصحف أصبحت تعتمد على مقالات الرأى. وهو ما يسوغ لى أن أصفها بالصحافة التعبوية التى أصبحت تخدم النظام بأكثر مما تخدم القارئ، وتخاطب الانفعالات بأكثر مما تخاطب العقول حتى باتت تحث على التهليل بأكثر مما تحث على النقد والتفكير.
موت صحافة الخبر من أصداء موت السياسة وتراجع سقف الحريات العامة. ذلك واضح فى الأخبار والتقارير الصحفية التى باتت تنسب إما إلى مصادر سيادية أو مصادر أمنية، وقد سبق أن أبديت الملاحظة وانتقدت غياب المصادر السياسية، التى لا تتواجد إلا فى أجواء الحيوية السياسية التى نفتقدها.
ما عاد سرا الآن أن المؤسسة الأمنية المصرية هى التى تقف وراء الصحافة التعبوية، من خلال تزويدها بنوعية معينة من الأخبار والتقارير الجاهزة لديها والتسجيلات التليفزيونية التى تقوم بها. ولأنها المصدر الذى دأب على أن يوصل إلى الرأى العام ما يخدم سياساته وليس ما يريد أن يعرفه القارئ، فإن مجال حركة الصحفيين بدا محكوما بحدود البث الذى ترغب فيه المؤسسة الأمنية، من ثم فإن كفاءة الصحفى أصبحت لا تقاس بمقدار حصوله على الأخبار التى تهم القارئ أو تثير فضوله ــ وهذه أبوابها مغلقة فى الغالب ــ لكنها أصبحت تقاس بمدى قربه أو بعده من تلك المؤسسة. وما صارت تتباهى به بعض المنابر الإعلامية مدعية أنه «انفرادات» لا يعبر فى حقيقة الأمر عن أى جهد يبذله الصحفيون، ولكنه يعكس مدى قوة ارتباطهم بالمؤسسة الأمنية. وفى هذه الحالة فإن الموهبة الصحفية لم تعد مطلوبة، وأصبحت الملكة المرغوبة تتمثل فى درجة الولاء الشخصى وكفاءة نسج العلاقات العامة. وهو وضع يتعذر تصحيحه ما لم تستعد السياسة عافيتها وحيويتها، وذلك أمل تحول الغيوم المتراكمة فى الأفق الآن دون التفاؤل بامكانية تحقيقه فى الأجل المنظور، ما لم تحدث مفاجأة تأتينا من حيث لا نحتسب. وما ذلك على الله بعزيز.