هل أصبحت مصر محايدة إزاء الصراع العربى الإسرائيلى؟ ـ لو أن أحدا ألقى على السؤال قبل سنوات لقلت له على الفور: خسئت. فمصر ليست الدولة التى يوجه إليها سؤال من هذا القبيل، إلا أن الدنيا تغيرت على نحو لم يخطر لمثلى على بال، بحيث إن السؤال الذى كنا نعتبره مجرد اطلاقه من المحرمات المخزية التى تشين المرء وتجرح انتماءه، أصبح واردا، بل صرنا نحن الذين نلقيه، بعدما استبدت بنا الحيرة واختلطت الأوراق بحيث اهتزت الثوابت، وصار الحرام حلالا والحلال حراما.
خلال سنوات حكم مبارك بل وأثناء حكم السادات مرت العلاقات المصرية الفلسطينية بمراحل من البرود لأسباب طارئة. لكننى لا أتذكر أن فكرة الحياد إزاء القضية كانت واردة. وحتى حين استشاط السادات غضبا بعد اغتيال يوسف السباعى فى قبرص وبعد توقيعه اتفاق السلام مع إسرائيل، فإن البيانات الرسمية ظلت تعبر عن إدانة الاعتداءات الإسرائيلية والدفاع عن القضية الفلسطينية. حتى إذا كان ذلك قد تم من باب تسجيل المواقف فى وسائل الإعلام فى حين كانت السياسة تمضى باتجاه آخر، فالشاهد أن الخطاب السياسى والإعلامى ظل مرتبطا بموقف معلن كان من الصعب النزول عنه. وهو الموقف الذى تشير القرائن الأخيرة إلى أنه تم العدول عنه. ذلك أن ما كان نوعا من البرود بدا وكأنه نزوع إلى الحياد. والفرق بين الحالتين كبير، فالبرود يفترض أن هناك موقفا لا يراد الإعلان عنه، فى حين أن الحياد بمثابة وقوف فى الوسط بين طرفين وقد يكون تعبيرا عن اللاموقف. وإذا تذكرنا أننا كنا نتحدث عن قضية فلسطين باعتبارها القضية المركزية فى العالم العربى. فإن الانتقال من مركزية القضية إلى الحياد إزاءها يغدو نقلة هائلة وانتكاسة كبرى، أقرب إلى الانقلاب فى الموقف السياسى.
ما دعانى إلى التساؤل عن موقف الحياد ــ وأنا أتحدث عن السلطة وليس المجتمع ــ هو اللغة التى تحدثت بها وزارة الخارجية المصرية فى تعليقها على الانقضاض الإسرائيلى الأخير على غزة، والهجوم الوحشى الذى استهدف مواقع المقاومة ومساكن المدنيين. ذلك أنه حين بدأ العدوان المكثف يوم الاثنين 7/7 نشرت جريدة الأهرام فى عدد الثلاثاء تصريحا للسفير بدر عبدالعاطى المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية أعرب فيه عن «إدانة مصر لسلسلة الغارات التى شنها الطيران الإسرائيلى على قطاع غزة»، وبعد الإشارة إلى رفض مصر للقصف الذى يستهدف المدنيين، دعا المتحدث السفير عبدالعاطى إلى وقف السياسات الاستفزازية، وفى مقدمتها النشاط الاستيطانى وسياسة فرض الأمر الواقع «من جانب إسرائيل بطبيعة الحال».
هذا الموقف الذى أدان الغارات الإسرائيلية وانتقد سياسة إسرائيل الاستفزازية والاستيطانية تغير بعد 48 ساعة، حيث قرأنا كلاما مختلفا وغريبا للمتحدث باسم الخارجية المصرية، ورد نصه فى موقع الوزارة يوم 9/7. وجاء فى النص ما يلى: أعرب المتحدث الرسمى عن قلق مصر الشديد من استمرار تصاعد الأوضاع فى الأراضى الفلسطينية خلال الساعات الأخيرة مجددا المطالبة بضبط النفس والابتعاد الكامل والفورى عن أعمال «العنف المتبادل».. لتجنيب المدنيين ويلاته.. مما يؤدى إلى صعوبة العودة إلى المفاوضات التى تقود إلى تطلعات الشعب الفلسطينى وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية فى إطار تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.. «ودعا» المتحدث إلى ضرورة البدء الفورى فى اتصالات مباشرة بين الجانبين للعمل على إنفاذ العدالة، مؤكدا أن مصر تبذل جهودا مكثفة بالتعاون والتنسيق مع جميع الأطراف الإقليمية والدولية للحيلولة دون إراقة مزيد من دماء المدنيين… إلخ.
المتابع للشأن الفلسطينى يصدمه البيان، الذى بدا متراجعا. حتى أزعم أنه أضعف وأسوأ ما صدر عن الخارجية المصرية بخصوص القضية. فليست فيه كلمة إدنة لخمسمائة غارة إسرائيلية ألقت حوالى 400 طن متفجرات وقتلت نحو مائة فلسطينى وأصابت أكثر من 500. فى حين أن صواريخ المقاومة الفلسطينية أزعجتهم حقا، لكنها لم تقتل إسرائيليا واحدا. وقد وصف الاشتباك بأنه «عنف متبادل»، تساوى فى ظله القتيل مع القاتل ــ ثم إن الكلام عن ضبط النفس والدعوة إلى العودة للمفاوضات «لإنفاذ العدالة» كلام يرد فى أى بيان يصدر عن أى مسئول فى الكرة الأرضية لا علاقة له بالموضوع ــ بل إن هذه المعانى وردت كلها فى مقالة للرئيس الأمريكى باراك أوباما. نشرتها إحدى الصحف الألمانية كما ذكرت جريدة الأهرام فى عدد 10/7. هذا الموقف المحايد يلحظه أى متابع للحدث. وقد سجلته صحيفة «نيويورك تايمز» فى تقرير نشرته فى 9/7 ، ذكرت فيه أن مصر بدت وكأنها «رفعت يدها» عن دور الوساطة الذى اعتادت أن تقوم به فى مثل هذه الحالات. وأن ذلك يعكس «تحولا فى سياستها الخارجية فى عهد رئيسها الجديد عبدالفتاح السيسى». وقد أشارت صحيفة «المصرى اليوم» أمس إلى المعنى ذاته حين نشرت تقريرا كان عنوانه «صحف أمريكية تنتقد الصمت المصرى على قصف غزة».
لا يستطيع أحد أن يتجاهل حقيقة أن الحياد المصرى الظاهر إزاء حملة التدمير والإبادة الإسرائيلية الموجهة ضد القطاع متأثر بمشكلة السلطة مع الإخوان، ورذاذها الذى طال حماس والمقاومة الفلسطينية، وإذا صح ذلك فإنه يعد من قبيل التضحية بما هو إستراتيجى جراء التأثر بعوامل تكتيكية عارضة.
الصدمة فى حياد مصر الرسمية وفى صمت الكثيرين من عناصر النخبة المصرية لا تكاد تصدق. كما يصدمنا أيضا أن بين الأخيرين من بشرنا قبل عدة أشهر بعودة عبدالناصر وزمانه. وإذ ينعقد لسان المرء من الذهول والدهشة إزاء هذا الموقف، فإننى لا أملك سوى أن أصيح بأعلى صوت: ليس باسمنا صدر بيان الخارجية، لأنه لا يعبر إلا عن الذى أوصوا به وصاغوه