لا أجد أسخف من مسلسل خلافة داعش المعروض علينا هذه الأيام، سوى أصداءه فى أوساط النخبة المصرية.
(1)
لا أعرف إلى أى مدى انشغل الرأى العام العربى بحكاية الخلافة الإسلامية التى أعلنتها «داعش» عن بقية مسلسلات شهر رمضان، لكنى أستطيع أن أقول باطمئنان إن مسلسل الخلافة لم يضرب بقية مسلسلات رمضان فحسب، وإنما نافس مونديال البرازيل أيضا. ومن لديه أى شك فى ذلك فليفتح أى صحيفة عربية، وسيجد أن أصداء الخلافة تزاحم أخبار المونديال، والفرق بين الاثنتين أن الأولى فرقعة كبيرة حدثت فى بلاد الشام، أما الثانية فهى حقيقة على أرض البرازيل. وظلت الإثارة أهم القواسم المشتركة بينهما، وإن تميزت الفرقعة بأن الإثارة فيها مكتوبة بالدم ومحفوفة بالخوف.
مبلغ علمى أن الباحثين فى الفكر السياسى الإسلامى اتفقوا على أن الإسلام لم يحدد شكلا ولا نظاما للحكم. ولكنه فقط أرسى قاعدة «الشورى» لتكون أساسا للحكم، بما يعنى أنه حدد «قيمة» يصوغها أهل كل زمان، حسب ما تقتضيه مصلحتهم. وقد ظلت الخلافة الراشدة نموذجا فريدا فى التاريخ. يُشعر المؤمنين بالاعتزاز والفخر.
ولا بأس فى أن تختلط مشاعر الاعتزاز بالخلافة عند المؤمنين بالحنين إليها، من باب إنعاش الذاكرة وترطيب الجوانح ليس أكثر؛ إذ لا يستطيع أحد أن يمنع المسلمين من استعادة عصورهم الذهبية واستلهامها، لكن ذلك لا ينبغى له أن يمثل التزاما بمرجعية الشكل، بقدر ما يعنى الحث على الاسترشاد بمنظومة القيم الإيجابية التى سادت فى تلك العصور.
(2)
فى عام 1953 أطلق القاضى تقى الدين النبهانى فى القدس دعوته إلى إقامة الخلافة الإسلامية، وجمع شمل المسلمين تحت لوائها، وأسس لأجل ذلك حزب التحرير الإسلامى الذى لا يزال يتبنى تلك الدعوة، وله أتباعه فى فلسطين والأردن، وفى شرق آسيا وبعض دول المهجر التى يستشعر بعض المسلمين المقيمين فيها بأنهم بحاجة إلى مظلة تحميهم. ورغم أن «أمراء» حزب التحرير أعدوا عدتهم لذلك وقسموا العالم العربى إلى ولايات، إلا أن دعوتهم ظلت محصورة فى نطاق الدعوة والتبشير، ولم تذهب إلى أبعد من ذلك طوال الستين سنة الماضية، إلا أن تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام (داعش)، الذى تأسس فى عام 2006، ما أن حقق بعض الانتصارات العسكرية فى العراق وسوريا فى الآونة الأخيرة، مستعينا بقيادات جيش صدام حسين، ومستثمرا غضب أهل السنة وانتفاضهم، حتى أعلن فى 29 يونيو الماضى (أول أيام شهر رمضان) إقامة الخلافة وبيعة الخليفة، ودعا المسلمين فى أرجاء الأرض للانضواء تحت لوائه، واستفاد التنظيم من تدهور الأوضاع فى العراق واضطرابها فى سوريا فبسط سيطرته على معظم أنحائها الشرقية وتقدم بسرعة فى المحافظات السنية بالعراق. وفى انتشاره فإنه استولى على كميات كبيرة من السلاح الموجودة فى مخازن البلدين، وعلى أموال من البنوك التى وقعت فى أيديهم. كما وضع التنظيم يده على حقول نفط وأراض زراعية، وهى عوامل وموارد أقنعت قادته بإمكانية استمرار دولة الخلافة وتمددها.
ثمة لغط مثار حول دور الأطراف الخارجية فى إطلاق داعش وانقضاضها المفاجئ، كما أن هناك جدلا حول طبيعة وهوية التنظيم فى كل من العراق وسوريا، وكونه يتسم بقدر من المرونة ويحرص على التعاون والتفاهم مع العشائر فى العراق، فضلا عن اعتماده على قيادات محلية عراقية. أما فى سوريا فهو أكثر عنفا وأشد قسوة وغلظة، ومن بين قياداته «مجاهدون» قادمون من الخارج، أبرزهم مسلم من جورجيا تسمى باسم أبوعمر الشيشانى، ينتسب إلى كيان اسمه «جيش المغتربين والأنصار»، الذى يضم عددا كبيرا من المقاتلين المسلمين الذين ينتمون إلى الجمهوريات السوفيتية السابقة.
على أهمية تلك الخلفية، إلا أن ما يهمنى فى السياق الذى نحن بصدده هو مسألة الخلافة المعلنة، التى أصبحت تحتل حيزا كبيرا من التغطية والمتابعات الإعلامية. وقد أثار انتباهى أن تلك المتابعات أخذت المسألة على محمل الجد، وتعاملت مع الفرقعة وكأنها حقيقة مستقرة على الأرض، وليست مجرد سحابة عابرة فى فضاء المنطقة ضمن تجليات الفوضى التى تعتمل بين جنباتها.
من المفارقات أن حزب التحرير، الذى اعتبر الخلافة ركيزة مشروعة وغاية مرادة، أصدر بيانا فى عمان اعتبر فيه إعلان الخلافة، الذى أصدرته «داعش»، «لغوا لا قيمة له.. لا يقدم ولا يؤخر». كما أن اتحاد علماء المسلمين الذى يرأسه الدكتور يوسف القرضاوى، أصدر بيانا فى 3/7 أعلن فيه «أن إعلان فصيل معين للخلافة باطل شرعا، لا تترتب عليه أى آثار شرعية، بل تترتب عليه آثار خطيرة على أهل السنة فى العراق والثورة فى سوريا»، واعتبر الإعلان تعبيرا عن «الافتقار إلى فقه الواقع وأشبه بالانقضاض على ثورة الشعب، التى يشارك فيها أهل السنة بكل قواهم».
الدكتور أحمد الريسونى، الفقيه المغاربى ونائب رئيس اتحاد علماء المسلمين، نشرت له صحيفة «التجديد» (فى 1/7) تصريحا، قال فيه إن إعلان الخلافة الإسلامية ليس أكثر من وهم وسراب وأضغاث أحلام، سواء من ناحية الواقع العملى أو من الناحية الشرعية، وأضاف قائلا إن البيعة المزعومة تمت من أشخاص مجاهيل لشخص مجهول فى صحراء أو كهف من الكهوف، فلا تلزم ولا تعنى إلا أصحابها».
(3)
من الأمور الجديرة بالملاحظة أن كثيرين انشغلوا بفرقعة إعلان الخلافة، الأمر الذى صرف انتباههم عن العوامل الكامنة وراءها أو البيئة التى أفرزتها. ومن ثم فإن أبصارهم اتجهت صوب تنظيم «داعش» وممارساته فى العراق وسوريا. ولم يدركوا أن التنظيم هو جزء من مشكلة، ولكنه ليس جوهر المشكلة. ذلك أنه فى جذوره حركة مقاومة عراقية ضد الاحتلال الأمريكى ارتبطت بتنظيم القاعدة، لكنها انفصلت عنه لاحقا وتبنت مشروع الدولة الإسلامية فى سوريا والعراق، ولم تتخل تماما عن رسالتها العراقية؛ لذلك فإنها لقيت تعاونا من جانب ضباط جيش صدام حسين ومن العشائر ومن قواعد أهل السنة، التى ضاقت بالحكم الطائفى فى بغداد. لذلك فإننى لا أبالغ إذا قلت إن التنظيم فيه من التعبير عن انتفاضة أهل السنة العراقيين وتجسيد غضبهم واحتجاجهم، بأكثر مما فيه من تطلعات التبشير بإحياء الخلافة.
يستوقفنا فى هذا الصدد أن وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى بدا مدركا لتلك الحقيقة، أكثر من أغلب «الخبراء» والمحللين العرب. على الأقل فذلك ما كشف عنه محضر اجتماعه الأخير مع رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى، الذى نشرت نصه جريدة «الحياة اللندنية» فى 3/7 الحالى. إذ ذكر النص فى أكثر من موضع أن الرجل انتقد السياسات الطائفية «غير الحصيفة»، التى اتبعها المالكى، والتى أثارت استياء وغضب أهل السنة والأكراد، وقال إن منظمة «داعش» إرهابية حقا، ولكن ليس كل الذين وقفوا معها سواء كانوا مقاتلين أو مساندين، ليسوا إرهابيين أو تكفيريين، ولكنهم مواطنون عراقيون معتدلون حاربوا ضد تنظيم القاعدة فى الماضى، ويطالبون الآن برفع المعاناة عنهم والكف عن التهميش والإقصاء. وما كان لهم أن يلجأوا إلى المقاومة المسلحة ومساندة «داعش»، إلا لأن خياراتهم ضاقت جراء السياسات الرعناء التى اتبعتها حكومة المالكى.
(4)
بعض عناصر النخبة المصرية قرأت الحدث من منظور آخر، فهى لم تقرأ الأزمة السياسية الداخلية فى العراق، ولم تتوقف عند غضب أهل السنة ومعاناتهم. ولكنها حصرت اهتمامها فى التعليق على مسألة إعلان الخلافة الإسلامية، وفى القسوة المفرطة التى اتبعتها «داعش» مع مخالفيها، والقهر الذى مارسته بحق الذين خضعوا لولايتها. ثم وظفوا ذلك كله لصالح حسابات السياسة الداخلية والصراع الحاصل الآن فى مصر بين السلطة والإخوان، وكانت الرسالة التى حرصوا على توصيلها هى أن «داعش» هى النموذج الذى يسعى الإسلاميون إلى تطبيقه حيثما وجدوا. وأن الجميع لابد أن يحمدوا الله ويشكروا الرئيس عبدالفتاح السيسى لأنه أنقذ مصر من المصير البائس، الذى حملته «داعش» إلى المناطق التى خضعت لسلطانها. للدقة فإن ذلك لم يكن خطاب تلك الفئة من النخبة المصرية فحسب، ولكنى وجدت صدى له فى صحف الدول الخليجية، التى تقود الحملة ضد تجليات الربيع العربى. حيث شاهدنا صور الإعدامات التى نفذها تنظيم «داعش»، وهى تتصدر الصفحات الأولى لبعض صحف تلك الدول، فى رسالة ضمنية تقول للرأى العام هذا هو المصير الذى ينتظركم إذا ما وصل الإسلاميون إلى السلطة، وهى الرسالة التى حرص بعض السياسيين على التلميح إليها فى عدة مناسبات أخيرة. وقد قرأنا هذا الأسبوع تصريحا لأحد القادة العرب علق فيه على تفاعلات الداخل وأزماته التى جلبها نظامه، قائلا لبنى وطنه: «إذا نظرتم حولكم فستدركون أنكم أفضل كثيرا من غيركم».
ليس عندى دفاع عن تجربة الإسلاميين فى السلطة. ولكن ما يعنينى فى اللحظة الراهنة هو الخطأ المتعمد فى قراءة الحدث، وتوظيفه لصالح حسابات الصراع الداخلى. فى تجاهل وانتهاك لقيم المعرفة والأمانة العلمية، من شأنه أن يضلل القارئ ويشوه إدراكه.
أخطر ما فى ذلك الخطاب انه يضع الجميع فى سلة واحدة، ويعتبر ان فكرة الاعتدال الإسلامى خرافة روجتها بعض الجماعات وحيلة انطلت على كثيرين. والحقيقة من وجهة نظرهم أنه لا فرق بين طالبان وبوكو حرام وداعش وبين الإخوان وحزب الوسط وحركة النهضة التونسية وحزبى التنمية والعدالة فى المغرب وتركيا. فكلهم إرهابيون حملوا أسماء متباينة وأخفوا قسماتهم تحت اقنعة مختلفة. وقد عبر عن ذلك أحدهم حين كتب قائلا: كلهم داعشيون. وهى ذات الفكرة التى تبناها غلاة المحافظين فى الولايات المتحدة ويروج لها بشدة «اللوبى» الصهيونى هناك.
لقد أشرت قبل قليل إلى محضر لقاء وزير الخارجية الأمريكى مع رئيس الوزراء العراقى، الذى حرص فيه الأخير على تصوير معارضيه بأنهم جميعا إرهابيون وداعشيون، فما كان من الوزير الأمريكى إلا أن أكد له أنه يتعين التمييز فى المعارضين بين المتطرفين منهم والمعتدلين. وهو المنطق الذى ينبغى أن يفكر به أى سياسى مسئول. ليس فقط تقريرا للواقع، وانما أيضا لكى يجد طرفا يستطيع التفاهم معه. لأن إعلان الحرب على الجميع دون تمييز هو حماقة كبرى تجعل الصراع بلا نهاية وتكبد الجميع خسائر فادحة. ومن المؤسف والمحزن أن نجد بعض مثقفينا فى مصر يؤججون تلك الحرب المفتوحة حتى وصفهم أحد الكتاب العرب بأنهم أصبحوا بمثابة «كتيبة إبادة» (الحياة اللندنية 3/7).
إن مقاومة «شيطنة» الإسلاميين جميعا أصبحت ضرورة ملحة، فى وقت صار فيه الفرز فريضة غائبة وأحد سبل الخروج من المأزق السياسى الذى نعانى منه.