مجموعة سعودي القانونية

فهمي هويدي يكتب | ما لا يجوز السكوت عليه

فهمى-هويدى

سيكون مخزيا ومشينا أن يُفسر صمت مصر إزاء ما تفعله إسرائيل هذه الأيام فى غزة باعتباره من علامات الرضى. لا يقوله أحد أن مصر اطلقت مبادرتها وأدانت العدوان، وانها تستقبل وفودا أجنبية ولا تمل من الجهر فى كل مناسبة بأن المبادرة هى الحل، ذلك اننى لا أتحدث عن المبادرة ولا عن الاتصالات والحوارات الدبلوماسية التى لا نعرف شيئا عن مضمونها. انما أتحدث عن موقف حازم يليق بوزن مصر إزاء حوالى 15 مذبحة أقدمت عليها إسرائيل خلال الأسبوعين الأخيرين. وعن حملة الإبادة التى يتعرض لها الشعب الفلسطينى، بل انها لم تكتف بقتل البشر والفتك بهم، وإنما ذهبت إلى حد تدمير البيوت والخدمات والانقضاض حتى على المستشفيات فضلا عن المدارس والمساجد وكل مكان آخر دعت القوانين والاعراف الدولية إلى تأمينه فى حالة الحرب. ذلك أن إسرائيل فى غزة لم تستهدف فصائل المقاومة وعلى رأسها حماس والجهاد فقط، ولكنها أرادت ان تحول القطاع إلى جحيم وتقتل الحياة فيه. لذلك فإن مصطلح «العقاب الجماعى للمدنيين» يبدو تعبيرا مخففا ومخادعا، لأن العقاب قد ينزل بالبشر وهم أحياء فيؤلمهم ويضاعف من معاناتهم. أما ما تفعله إسرائيل فهو يتجاوز بكثير تلك الحدود. إذ حين نرى صور «الشجاعية» بعد تدميرها وبقايا الأشلاء والجثث متناثرة فى الشوارع. وحين نرى الأطفال وقد تحطمت جماجمهم وبرزت أحشاؤهم وطارت أطرافهم فى الهواء وحين نجد أن عربات الإسعاف وقد قصفت كى لا تحمل الضحايا وتتركهم يتعذبون ويموتون واحدا تلو الآخر. وحين نرى توابيت الأسر التى أبيدت عن آخرها ولم يبق منها أحد على قيد الحياة، فإن ذلك كله لا يمكن أن يوصف فقط بأنه عقاب جماعى.

لست أتحدث أيضا عن مظاهرات تخرج إلى الشوارع معلنة غضبها واحتجاجها على تلك الممارسات البشعة. كما هو الحاصل فى العديد من عواصم الدنيا. صحيح أننى أتمنى ذلك لكى يسمع الجميع خصوصا فى فلسطين صوت المجتمع فى مصر المعبر عن رأيه فى حملة إبادة «الأشقاء» فى غزة، إلا أن ما فى ذهنى الآن شىء مختلف، ليس لأننى مقتنع بإسكات صوت الشارع وحظر تظاهرات الناس، ولكن لأن تظاهرات المصريين فى الوقت الراهن باتت مغامرة كبرى، تكلف المشاركين فيها أثمانا باهظة، حيث تلاحقهم أحكام السجن المشدد والغرامات المالية الباهظة التى ترهق الأهل وتذلهم.

ما أتحدث عنه وأتمناه الآن أن يصدر عن القاهرة موقف رسمى حازم مشرف فى وضوحه وتحيزاته. أقصد ان يصدر بيان قوى يدين الجرائم الإسرائيلية ويرفضها. على الملأ. إن إسرائيل بغاراتها على المدنيين تجاوزت كل الحدود والأعراف، ولذلك فإن مصر قررت استدعاء سفيرها للتشاور حول الوضع الراهن. وأنها تتمنى ألا تلجأ إلى إجراءات أخرى تمس العلاقة بين البلدين فى حال استمرار العدوان الإسرائيلى.

تمنيت أن تطوى مصر صفحة الموقف الملتبس الذى عبرت عنه بيانات سابقة تحدثت عن «العنف المتبادل» وطالبت بوقف «الأعمال العدائية» التى يمارسها الجانبان الإسرائيلى والفلسطينى، وحتى إذا قيل إن مثل تلك البيانات صدرت قبل أن تتطور الحملة الإسرائيلية من عدوان ظالم إلى إبادة صريحة، فإن الحاصل الآن يستدعى خطابا آخر يتبنى موقفا أكثر حزما، ويتجاوز الكلمات إلى الإجراءات. أدرى أن وزارة الخارجية خطت خطوة ايجابية نسبيا ببيانها الذى أصدرته فى 18/7 وأدانت فيه «التصعيد الإسرائيلى الأخير فى العمليات العسكرية» ودعتها إلى وقف أعمال العنف والاجتياحات البرية، وحملتها المسئولية القانونية تجاه حماية أرواح المدنيين باعتبارها قوة احتلال، كما طالبتها بالامتناع عن أساليب العقاب الجماعى والاستخدام المفرط وغير المبرر للقوة. وانتهى البيان إلى دعوة كل الأطراف المعنية بالقبول الفورى وغير المشروط للمبادرة المصرية.

رغم أنه إيجابى وأفضل من سابقيه، إلا أن البيان بدا ناصحا ومدافعا عن المبادرة بأكثر من دفاعه عن الشعب الفلسطينى فى غزة. وإذا قارنت لغته الدبلوماسية والقانونية بالتصعيد المجنون الذى حدث بعد ذلك، فستجد أن إسرائيل لم تأخذ البيان على محمل الجد، فتجاهلته واستخفت به، الأمر الذى كان يستوجب استخدام لغة أخرى من جانب مصر، حدها الأولى أن تسحب سفيرها من تل أبيب.

لا أتجاهل توتر العلاقات وتسميمها بين القاهرة وحركة حماس، الأمر الذى أدى إلى انسداد قنوات الاتصال بين الجانبين، فى حين انفتحت تلك القنوات مع إسرائيل، وتلك من علامات الساعة الصغرى. كذلك فإننى لم أجد تفسيرا مقنعا لمنع وفود الأطباء التى جاءت من عدة دول لعلاج الجرحى المحاصرين. كما أننى لا أريد أن أصدق ما يتردد عن اساءة معاملة الجرحى الفلسطينيين الذين سمح لهم باجتياز معبر رفح واخضاع بعضهم للتحقيق والاستنطاق. كذلك لا أريد أن أصدق ما يشاع عن فضيحة إرسال أغذية منتهية الصلاحية من مصر إلى غزة. لكننى مستعد للتغاضى عن كل ذلك مؤقتا مقابل الحفاظ على وضوح الرؤية الاستراتيجية التى تعتبر الدفاع عن غزة ليس دفاعا عن الفلسطينيين وحدهم، ولكنه دفاع عن الأمن القومى المصرى فى ذات الوقت. وان نضال غزة لا يصون عن استقلال وكبرياء الشعب الفلسطينى وحده، ولكنه دفاع عن حدود مصر الشرقية أيضا، من هذه الزاوية فإن السكوت على تدمير غزة وافتراسها من جانب إسرائيل يظل فى الوقت ذاته تفريطا فى استحقاقات الدفاع عن أمن مصر ذاتها وأمن الأمة العربية أيضا، لذا لزم التنويه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *