محمد المخزنجي يكتب | الماسادا الإخوانية (2) طريق الثعبان
لم يتوقف تعبير «عقدة ماسادا»، أو «متلازمة ماسادا»، عند حدود توصيف سلوك الانتحار السياسى الجمعى، بل جرى استخدامه لتوصيف الانتحار السياسى الفردى، ففى محاضرة للدكتور «جيرولد بوست» مدير برنامج علم النفس السياسى بجامعة جورج واشنطن أمام لجنة خدمات القوات المسلحة فى مجلس النواب الأمريكى فى ديسمبر 1990، قُبيل ذهاب الولايات المتحدة للحرب مع العراق، قال إن صدام حسين وُصِف حديثا على لسان وزير الخارجية السوفييتى بريماكوف، وآخرين ممن التقوه للوساطة بأنه «يعانى عقدة ماسادا، فهو يفضل الموت استشهادا على الاستسلام»، ولم يكن الاستسلام المقصود حينها غير الموافقة على الخروج من الكويت التى كان يحتلها آنذاك، وكلنا يعرف مآل عناده وتشبثه برأيه الفردى فيما بعد، سواء خروجه الإجبارى باهظ التكلفة من الكويت، أو اجتلاب الاحتلال الأمريكى لبلاده، فلم يكن صدام هو الذى انتحر أو استُشهد لقاء عناده، بل كان الجيش العراقى هو الذى نُحِر ونُحِرت معه العراق، قبل هروبه ثم إمساكه وشنقه المرير.
بالطبع يمكن أن نلمح مُعادِلات موضوعية، مع الفارق، بين سلوك صدام وسلوك قادة اعتصام رابعة وزعماء منصتها، ونتائج هذا السلوك على جماهير المعتصمين الذين دُفع بهم إلى مواجهة عدمية تساوى الانتحار، بينما فر الزعماء والخطباء والمحرضون من المواجهة التى خططوا لها وحرضوا وشحنوا. وعندما نمد هذه المضاهاة مع زعماء حادثة أو أسطورة ماسادا، سنكتشف مدى غياب المصداقية، عند صدام كما عند زعماء وخطباء ومُحرضى رابعة ومُنظِّرى تأجيجها. وسيلزمنا قبل أن نخوض فى هذه المقارنات واستخلاص نتائجها، أن نعود إلى موضوع الماسادا، وملابساتها التاريخية، كما الانتهازية الصهيونية وأساليبها المعادية للتاريخ استهدافا لاستثمار تلك «الأسطورة»! «ماساد»، أى القلعة، تقع على مرتفع صخرى منعزل على طرف الصحراء ووادى النهر الميت بفلسطين، ويصعد إليها درب متعرج يُسمَّى «ممر الثعبان»، ويُحكى أن هيرود «ملك اليهود» الذى ولَّاه الرومان على القدس أقام فى المكان قلعة حصينة، وبعد فجوة غامضة من الزمن تحولت القلعة إلى ثكنة للحامية الرومانية، ومع اندلاع حرب بين اليهود وبعضهم البعض هرب مناحم بن يهودا الجليلى من القدس ومعه جماعته من اليهود «القنائين»، وهاجموا القلعة واحتلوها بالحيلة والخداع، وبعد قتل مناحم بن يهودا حل بمكانه ابن أخيه أليعازر، وفى عام 72 بعد الميلاد حاصر الحاكم الرومانى فلافيوس القلعة لفترة طويلة حتى عثر على ثغرة فى سورها تمكنه من ولوجها عام 73، عندئذ راح أليعازر يقنع أتباعه فى القلعة، وكان عددهم 960 رجلا وامرأة وطفلا، بأن ينتحروا أفضل من الوقوع بين أيدى الرومان، وقد فعلوا ذلك، واختتموا فعلتهم بحرق الأبنية ومخازن الغذاء قبل أن يقضى آخر فرد منهم، الذى كان على الأرجح زعيمهم أليعازر. هذه الحكاية تحولت على يد الكيان الصهيونى إلى أسطورة تنضاف إلى أسطورة شمشون وتُكرِّس لدعاية «الشعب الانتحارى» الذى لا يستسلم، برغم أن الانتحار محرم فى الديانة اليهودية كما فى كل الديانات السماوية، ووصل الأمر بالتكريس إلى تحويل صخرة «ماسادا» إلى مكان به نصب تذكارى وشعلة لا تنطفئ، يذهب إليه القادة العسكريون ليقسموا يمين ولائهم، كما أنهم حولوها إلى مزار سياحى وقِبلة لزيارات طلاب المدارس، وحتى يُحكموا تجسيد أسطورتهم حاولوا تلفيق حفريات تدل على واقعية الأسطورة، تولاها الجنرال يجال يادين القائد العسكرى السابق والمؤرخ اللاحق، لكن هذه الحفريات لم تثبت شيئا من الحقيقة للأسطورة، التى كان راويها الأصلى محل ريبة، حتى من مؤرخين إسرائيليين وباحثين نسفوا مصداقية هذه الأسطورة وعرُّوا مراميها. الباحثة اليهودية ويسى روز مارين فى 24 أغسطس 1973 قالت لجريدة «جويش بوست» إن نتائج ماقامت به من دراسات تؤكد أن ماسادا محض خرافة وأنه لا دليل على صحة الاكتشافات الأثرية للجنرال يادين التى تستند إليها هذه القصة». كما أن دارسى تاريخ أليعازر قائد هذه الأسطورة، أثبتوا أنه فى الواقع: «كان أحد خوارج ثلاثة تسببوا فى خراب القدس، وكان جبارا فاتكا داعرا حراميا، وأن جماعته كانت من الحرامية وأهل الشر»، وهذه الشهادة تتسق مع حقيقة فرقة «القنائين» التى كانت تضم طائفة من حثالة اليهود المتعصبين الذين يتسم فكرهم بشعبيته المبتذلة المشبعة بالخرافات، وكانوا يناصبون غيرهم من اليهود العداء، ويروعونهم بأعمال القنص والفوضى إضافة للنهب والفتك، فكان يُطلق عليهم اسم «السفَّاكون». أما المفارقة الناسفة لرومانسية هذه الأسطورة، فكانت حقيقة راويها ومصدرها الوحيد «يوسيفوس فلافيوس»، فقد كان يهوديا بلا ضمير، خان قومه حين سلم للرومان عام 66 ميلادية المنطقة التى كان يحكمها، ثم هرب إلى روما حيث كتب «تاريخه»، وعلى الأرجح كان فى اختلاقاته يحاول التماس الأعذار عن خيانة بنى جلدته، بتصوير الحرب اليهودية ضد الرومان على أنها من صنع المهووسين القنائين، أى أنها حرب لم يُرِدْها اليهود وإنما فرضتها عليهم جماعة من اللصوص لم تترك إثما إلا اقترفته». هكذا تُصنع الأساطير الموغلة فى الغرابة، سواء كان لها ظل من الحقيقة، أو كانت مُختَلقة بالكُلية، ولا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى بواعثها، التى هى مرضية بالضرورة، وثمة مسرد تاريخى طويل بحشد من وقائع وأساطير الانتحار الجماعى، تدفع غرابتها إلى البحث فى أحراش الآليات الدفاعية النفسية الغريبة فى نفوس البشر، وقد يرى البعض فى مضاهاتى لمُلابسات «اعتصام رابعة» بحالات الانتحار الجماعى فى الواقع التاريخى كما الأنساق الأسطورية نوعا من التشويه لسمو المشاعر ونبل الغايات التى كانت تكتنف جماهير هذا الاعتصام، وهنا أرانى أؤكد فصلى بين مُكونين، فبينما أستشعر صدق مشاعر الكثرة من جماهير هذا الاعتصام واستعدادهم الحقيقى للموت «استشهادا»، كما أُقنعوا أو اقتنعوا، ولا أقول بصحة هذه المشاعر رغم صدقها، أوقن فى كذب المحرضين على هذا الاستدراج للموت تحت مُسمَّى الشهادة، وهذا ما كشف عنه هروب جنرالات المنصة، ثم تهافت أقوالهم وتفاهة نفوسهم التى أسفرت عنها تداعياتهم حين القبض عليهم، كالتملص من تصريحاتهم وتحريضاتهم النارية السابقة، وادعاء معارضتهم لمحمد مرسى وأخطاء حُكمه، بل قول أحدهم إنه كان يكرهه! ثم هذا الإنكار الذليل لرموز ادعوا أنه لاصلة لهم بتنظيم الإخوان بينما هم من مشاهير قادته ! إنه لأمر محزن، أن أجد المضاهاة ممكنة بين أفَّاك أفَّاق مثل أليعازر قائد أسطورة ماسادا، وشخوص صالوا وجالوا على منصة رابعة ثم تولاهم ذعر وإنكار الفئران عند غرق السفينة. وإنه لأمر أكثر حزنا، أن تكون المضاهاة ممكنة أيضا، بين رواية تقول بأن الأطفال والنساء فى جوهر الماسادا لم ينتحروا بل نُحروا بنصل أليعازر وبطانته، وبين النساء والأبرياء من جماهير رابعة والنهضة الذين دُفعوا للانتحار فى مواجهة عدمية كان يمكن تحشايها، لولا تحريض ودفع ومحاصرة زعماء وَلُّوا الأدبار، وأبواق شحن آمنة تتنعم بعطايا الكفيل خارج الحدود، كل الحدود. الرحمة لضحايا رابعة والنهضة، من الفتيات الصغيرات والشباب الغض خاصة، والذين أحسَبهم ببراءة الأعمار والقلوب شهداء عند علام الغيوب، وأحسَب وِزر دمائهم الأكبر فى رقبة من دفعوهم إلى الموت، بالخديعة، وتوزيع صكوك الشهادة، ودس المسلحين بين صفوفهم ليتساقط أكبر عدد منهم حين تبادُل إطلاق النيران، استثمارا لمظلومية يصنع منها «الزعماء» أسطورة، تُيسر عودة عصبتهم المستقوية بالغرب المُخاتل إلى قلعة فقدوها، ماسادا إخوانية، يصعد إليها درب متعرج وملتف وخبيث، ليس غريبا أن يتسمى أيضا «طريق الثعبان».