فى الطريق إلى مدرستى القديمة أعددت نفسى لكل الاحتمالات؛ فهناك من أساتذتى من لن يتذكرنى وهناك من خرج على المعاش وهناك من تم نقله وهناك من توفاه الله.
قلت لنفسى إن شيئاً لن ينتقص من البهجة التى أبحث عنها، وقررت أن أتقبل مجريات القدر والأيام وتصاريف الزمن على البشر.
فى مدرسة الشهيد مصطفى الطباخ الابتدائية فى الشرابية كانت «دادة ليلى» فى نفس مكانها بجوار الباب، وبنفس ابتسامتها القديمة، وكأنها على حطّة إيدك، بينما فرّاش جديد ينظر لى بدهشة: رايح فين يا أستاذ؟
كيف تحول الـ«ياض» أو الـ«يالا» إلى أستاذ إن لم تكن الأيام يداولها الله بين الناس؟ ربما لهذا قطّبت جبينى متصنعاً الوقار الذى يلائم الأستاذ وأنا أسأله عن أساتذتى القدامى وعينى تجرى فى الحوش وأنا ألمحنى أحدف النخلة الكبيرة بالطوب لتسقط أى بلحة محتملة، وأقف عند الإذاعة المدرسية لأقرأ القرآن وأنادى على المدرسة: مدرسة صفاااا.. مدرسة انتبااااه، ثم أعزف بلادى بلادى على الإكسليفون وأنا أردد: «دوفافا دوفافا مى فا صول لا فا»!!
كان الطابور وقتها يبدو وكأنه عرض رجل واحد، مثل معظم الأمور وقتها، أما الآن فالحوش أصغر بكثير من هذا الذى كان يقطع أنفاسنا، رغم أنه نفس الحوش الذى كنا نستضيف فيه كمونة والحضرى وعلاء ميهوب ولاعبى الأهلى ليلعبوا الكرة فى رمضان مجاملة لسمير كمونة الشرابياوى الذى افتتح هناك الآن مقهى ومدرسة كرة لاكتشاف الموهوبين فى مركز الشباب.
تقول لى سيدة فاضلة: عايز حاجة يا أستاذ؟
أنظر لها نظرة مكتشفى الحياة على الكواكب الأخرى وأسألها عن محمود عبدالله، زميل مدرستى الذى صار أستاذاً بذات المدرسة وزميلاً لأساتذته القدامى.
يخرج لى «محمود» ويلوح لى، وأصعد لفصلى القديم باحثاً عن الولد الكلبوظ الذى كان يجلس فى ٤/٣ على أول دكة فى المنتصف، فأجد مكانه ٤ بنات!!
«محمود» ابن حلال، ومن الزملاء الذين كنت، وما زلت، أحبهم، كان يمسك بخرزانة يقسم لى إنها لزوم الشغل وإنه لا يستخدمها.
يصطحبنى محمود للأستاذ مصطفى مسعود، أحد عباقرة الحساب فى المدرسة، الذى درس لى وأنا فى سنة رابعة، وما زلت أتذكره فى حصة احتياطية فى نهاية الثمانينات وهو يعلمنا أحكام التلاوة بصوت خاشع.
أصافحه فى لهفة، وأحتضن فيه براءة قديمة وفخراً بتلميذ يراه فى التليفزيون ولا يزال يتشرف بأنه أستاذه.
يتكرر الأمر مع الأستاذ أحمد عبدالعزيز الذى كان بمثابة الوالد لنا، والذى يشرح كل المواد بنفس المهارة والاقتدار، فألتقط معه صورة أحرص على أن أُريها لأولادى.
أخرج من المدرسة سعيداً مبتهجاً، وأكرر الأمر مع مدرستى الإعدادية «نهضة مصر الإعدادية بنين» مصافحاً الأستاذ أنور عبدالمقصود، مدرس الإنجليزى المحترم صاحب الضمير المتقد، وأضحك وأنا أحتضن علاء النوبى الذى يقول لى: انت فين يا كلب ولا ما بتظهرش غير فى التليفزيون؟
أفرح بوصفه وأضحك من قلبى وأصطدم بالعيال فى الفسحة، لكنى أخرج بالحقيقة المرة بعد أن أسمع بعضهم يتحدث فى السياسة.
سيكبر هؤلاء بعد سنوات ليتمنى كل منهم أن يزيح الآخر تماماً من حياته ظناً منه أن والد أحدهم قتل والده بطريقة أو بأخرى.
وسيحاول بعضهم أن يبحث عن البراءة.. لكن فى زمن آخر.