المراجعات حلوة مفيش كلام. مراجعاتك لنفسك ومواقفك بين الحين والآخر تستلزم إدراكاً لكونك مرتبكاً تواجه عالماً غريباً لم تكن تظن أنك ستصبح جزءاً منه بكلمة تكتبها أو رأى تجهر به لمن ينتظره، وسيحاسبك عليه إن آجلاً أو عاجلاً شخص لا يعرفك، لكنه يترصد لك، ويدفع ثمنه أبناؤك فى يوم ما، ويظل سبباً فى فخر البعض بك، ولعنات الآخرين، ودخولك فى لعبة التباديل والتوافيق الموجودة فى دائرة تصنيف قذرة تجعلك يوماً وطنياً مخلصاً، ويوماً خلية نائمة ومموَّلاً، ويوماً (انكلابى) حقير بعت نفسك للسلطة التى هى إلى زوال وتبدل من حال إلى حال، ويظل الارتباك سيد الموقف.
دعنى أولاً أبُح لك بسر، وهو أن المعرفة لعنة، وأن الكواليس شىء، والواقع شىء آخر، والفتى والهرى على أشده بين الجميع، والكل يحاول استخراج كارنيه العضوية فى نادى العبث ليصبح عضواً منتظماً بدلاً من انتسابه طيلة ما يقرب من ثلاثة أعوام لا يعرف فيها سوى ما أريد له أن يعرفه، بينما الحقيقة العارية يهرب منها الجميع على طريقة الأساطير الإغريقية القديمة، ولكى تتقبلها، يجب أن ترتدى بعض الملابس، فتفقد الكثير من صدقها ودقتها.
سأضرب لك مثلاً بالحالة الغريبة من الارتباك إزاء ترشح «السيسى» للرئاسة.. عندى من يؤكد أن الرجل لم يكن يريد أن يترشح للرئاسة، وأنه أعلن ذلك لأكثر من شخص مقرب، وأنه كان مخلصاً فى وعده وكلمته قبل أن تدور الدوائر على كل البغاة، ويصبح الترشح ضرورة ومطلباً للعديد من قطاعات الشعب، سواء كان سيترشح رئيساً يحظى بشعبية غير مسبوقة ومحبة جارفة من ناحية، ولعنات جاهزة لدى شريحة لا يمكن الاستهانة بها مهما قللت من شأنها من جهة أخرى، إضافة إلى لحظة تتوحد فيها الأغلبية خلف رجل واحد، بمن فيهم المرشحون المحتملون للمنافسة، وتفرض اللحظة التاريخية، وإرادة العقل الجمعى للمصريين، أن يأتى الرجل بمنطق (الراجل الجدع اللى هيلم الليلة)، لكن عندى أيضاً من الشواهد والمقدمات ما يؤكد أن ترشحه سيكون حلقة فى مسلسل صناعة ديكتاتور لا يرينا إلا ما يرى، من خلال عدد كبير من الشماشرجية الذين يتبرعون بلعب دور الدب، والذى يمكن أن يقتل صاحبه فى أى لحظة بمحبته الجارفة له، لكن أعود وأسأل: «وماذا لو لم يترشح السيسى أصلاً للرئاسة؟» لنفاجأ باختيار قريب الشبه من الاختيار الكارثى الذى وصلنا له فى الانتخابات الرئاسية وتكون المنافسة بين عدد من المرشحين الليبراليين وذوى المسحة العسكرية من جهة، ومرشح واحد مدعوم من التيارات الإسلامية والإخوان ومن عاونهم من جهة أخرى، لندخل فى نفس الحارة المزنوقة مرة أخرى، ثم يزيد الارتباك حين ستدرك من قبل الهنا بسنة أن نزول «السيسى» الرئاسة سيحرقه، وسيجعل منه رئيساً يواجه من التحديات ما لم يواجهه رئيس قبله، ليبدو الفشل وشيكاً مع مرور وقت دون إنجاز حقيقى فى مواجهة جماعة ما زالت (تلوش) هى ومن معها، لأنه لم يعد لديها شىء تخسره، ولأنها تجيد تسويق نفسها فى دور الضحية، واستقطاب تعاطف الكثيرين مع الناس مع استمرار (غباء) التعامل معها، والدعوة لمحوها تماماً من الوجود، مما يدخلنا فى (معركة وجود) مع كيان ستأتى له لحظة ويمارس جنوناً فعلياً لا مجازياً كما نراه الآن، وفى نفس الوقت فإن عدم نزول «السيسى» للرئاسة سيدفع قطاعات عظيمة من الناس لليأس لأنهم لا يريدون تكرار تجربة غير مأمونة النتائج، ولأنهم ملوا أصلاً من دور شعب التجارب الذى يمارس معه الجميع كل الألعاب، ويدفع هو الثمن فى النهاية، لكن نزول «السيسى» للانتخابات سيزيد من دوائر الضغط الخارجى وتسويق أن ما حدث انقلاب عسكرى، إلا أن الرد الجاهز سيكون: «وهل لو لم يترشح سيصبح بريئاً من تلك التهمة، وستكف الضغوط؟ وهل نوافق فى لحظة تحدينا فيها إرادة أمريكا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا لاستمرار رئيس فاشل بحجة تطبيق الديمقراطية والشرعية، وانتصرنا فى جزء كبير من المعركة أن نتراجع مرة أخرى؟».
الموضوع مربك.
نزول «السيسى» سيعيد نغمة (حكم العسكر) لكن عدم نزوله قد يدخلنا مرة أخرى فى مرحلة (حكم الأهبل).
ترشح «السيسى» سيعيد نغمة الحاكم الفرد والدولة الأمنية بعيداً عن الحلول السياسية، وعدم نزوله سيدخلنا فى كلام فارغ مع ناس ستتعلم فينا الرئاسة ويكون لديها عقدة نقص حين تتعامل مع «السيسى» باعتباره رئيس الرئيس، الذى يجب إزاحته والصدام معه إذا أردت أن تحكم.
من الآخر.. صراع المبدأ والمصلحة لن يجدى هذه المرة.. جربنا المبدأ.. مشّوها المرة دى مصلحة، لأننا فى كل الأحوال لن نتفق لا على المبدأ، ولا على المصلحة.