محمد فتحى يكتب | هل له توبة؟
لا تأخذه سِنة ولا نوم فى أوقات الراحة المعتادة التى ينفصل فيها عن زملائه من المشايخ، منتحياً جانباً مكاناً قصياً فى لجنة لفتوى بدار الإفتاء، ومرتلاً القرآن الكريم بصوت خفيض أو مرتشفاً للشاى «التقيل الحبر» الذى يصنعونه له خصيصاً من شاى المفتى نفسه، الذى أعطاه له أحد المبتعثين المسلمين من كينيا مقسماً أنه «أصلى» وأنه يليق بفضيلة المفتى، ثم يعدل عمته الأزهرية معتمداً على لوحة آية الكرسى التى يستخدم زجاجها كمرآة يضبط بها هندامه.
فى هذه اللحظة دخل ذلك الرجل. توجه إليه مباشرة وكأنه لا يرى غيره، وحين وقف أمام الشيخ التفت هذا الأخير له، وحدق فى وجهه قليلاً وكأنه يعرفه، ثم لم يلبث أن سأله: خير يا أستاذ؟
رد الرجل: جاى لحضرتك فى فتوى يا مولانا.
أشار الشيخ بيده حوله وقال للرجل: عندك كثير من مشايخنا الأفاضل، اذهب لهم وسيقومون بالواجب إن شاء الله.
اقترب منه الرجل وهو يقول: يا مولانا أنا جايلك مخصوص.. وحضرتك الوحيد الذى تيسر ولا تعسر، ولا تفتى عن جهل وإنما عن علم حقيقى.
أثارت كلمات الرجل بعض مشاعر الزهو فى الشيخ الذى وجد نفسه يقول مبتسماً: الله يحفظك.. خير إن شاء الله.. انت تؤمر.. هات ما عندك.
قال الرجل: أنا عايز أتوب مع إن ماليش توبة.
رد الشيخ: ومن قال إنه ليست لك توبة؟ لك توبة يقبلها الله بإذن الله تعالى؛ فهو عز وجل من يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل، وسبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. أنت أشركت بالله يا أستاذ؟
هزَّ الرجل رأسه بشدة وهو يقول: والله العظيم عمرى.. لكن ماليش توبة.
أمسك الشيخ بيد الرجل وهو يقول: لأ ليك، وانت مش واخد بالك.. وما تقاطعش.. انت مش عارف إن رحمة ربنا وسعت كل شىء؟
قال الرجل: إلا أنا.
نظر له الشيخ مستنكراً: طب استغفر ربنا.. عيب كده.. لا تقُل ما يوقعك فى شرك أنت لا تتحمل تبعاته، ولتعلم أن الله، عز وجل، عند ظن عبده به، وليكن ظنك بالله خيراً، ومهما فعلت.. تب إليه واندم واعقد العزم على ألا تعود إلى ما كنت إليه وندعو الله أن يتقبلك قبولاً حسناً و…
قاطعه الرجل: يا مولانا، أنت لا تفهم.
ثم اقترب منه وهمس له: انظر إلى تلك المرآة.
نظر الشيخ إلى زجاج آية الكرسى كما اعتاد.. رأى نفسه كما اعتاد، و…
ولم يرَ الرجل!!
وقبل أن يفهم، أو حتى ينتفض مذعوراً كان الرجل يهمس فى أذنه بصوت ظل عالقاً فى ذهنه باقى حياته: أنا إبليس يا مولانا.. هل لى توبة؟!
ولم يعرف الشيخ ماذا يقول.. نظر له فى ذعر وظل يبسمل ويحوقل، ويتمتم بآيات القرآن الكريم والرجل ينظر له فى سخرية وهو يقول:
يا عم الشيخ انت فاكر إنى كده هتحرق وأموت والحركات دى؟ ما أنا حافظ أصلاً المعوذتين وخاتم القرآن وأخاف من ربنا، وعشان كده جاى أتوب.. زهقت.
تراجع الشيخ حتى التصق بالحائط وتسارعت أنفاسه وبدأ فى قراءة القرآن بصوت مرتفع للدرجة التى جعلت المشايخ من حوله ينظرون له فى دهشة، بينما إبليس ينظر له فى صدمة، وهو يردد: معلهش.. الظاهر مش هتعرف تدينى فتوى فى الموضوع ده. سلام عليكم.
ثم تركه وانصرف.
(قصة من المجموعة القصصية «الخاسر»)