«افرد الخريطة يا سيادة اللواء»
خلال فترة لا تتجاوز ثلاث ساعات قبل أيام، خرج لواءان متقاعدان ومسؤول حكومي سابق له صلات قديمة بالمؤسسة العسكرية وخبير استراتيجي على متابعي برامج مختلفة في قناتين تليفزيونيتين تابعتين للدولة ومحطة إذاعية شهيرة، للدفاع عن إجراءات تهجير قاطني الشريط الحدودي في رفح.
استرسل الضيوف الأربعة في تأكيد أن المتضررين من التهجير راضون به، وأنه ثمن لا يذكر لحماية مصر من الإرهاب. جلب أحد اللواءين نسخة من «بروتوكولات حكماء صهيون» إلى الاستديو، واستشهد بمقاطع منها للتدليل على «عمق المؤامرة»، فيما تنبأ الآخر بأن «الحرب القادمة على مصر صليبية»، وهو ما أمّن عليه مضيفه.
لم يخرج حديثهم عن محتوى وجبات تسميم العقول اليومية التي بات يقدمها معظم إعلامنا، لكن اللافت أن الأربعة وجهوا- ومعهم مذيع إحدى القناتين- نداء متطابقاً إلى درجة تكشف أن مصدره واحد: «افردوا الخريطة، وتأملوا فيها، هاتفهموا المؤامرة».
يريد ملقن الخبراء الاستراتيجيين أن نفرد الخريطة للنظر إلى انهيار الدول في سوريا وليبيا والعراق، ويستخدم ذلك لإسكات الاعتراضات على تخبط سياساته لمكافحة الإرهاب التي لم توقف نزيف دماء جنودنا في سيناء، رغم الوعود المتكررة بتسليمها «مِتوضيّة».
غير أن دعوته تلك تتجاهل حاجة من يضع استراتيجية مكافحة الجماعات المسلحة في سيناء إلى فرد الخريطة، والنظر أبعد قليلاً من مثلثه المفضل (سوريا، ليبيا، والعراق)، ليكتشف أن العالم شهد عشرات الحالات المشابهة لما نواجهه في سيناء، وأن من سلكوا نهجه لم يحققوا انتصاراً على الإرهاب، وأن ما يتطلبه تحقيق هذا الانتصار أكبر من أن يترك للجنرالات، مهما بلغت كفاءتهم العسكرية.
في كتاب من جزئين أصدره العام الماضي تحت عنوان «مسارات إلى النصر»، قدم مركز راند البحثي الذي قضى أكثر من نصف قرن في دراسة مكافحة التمرد المسلح في العالم عصارة خبرته. تناول الكتاب بالتحليل 71 حالة تمرد مسلح بين 1944 و2010، واستخلص – باستخدام معادلات رياضية – دور العوامل المختلفة في النجاح أو الفشل.
وفي واحدة من أهم خلاصاته، يخبرنا الكتاب بأن الحل العسكري، على أهميته، ليس سوى أحد جوانب المواجهة التي تتطلب خطة أشمل لكسب القلوب والعقول، وأن الإفراط في الاعتماد على القوة وحدها قد يؤدي إلى ربح جولة، لكنه غالباً ما ينتهي إلى خسارة الحرب الممتدة.
أما التهجير الذي كان محور تبرير الخبراء الاستراتيجيين في المكلمات التليفزيونية، فيؤكد المركز أنه لم ينجح سوى في 3 حالات من أصل 59 شهدت تهجيراً لجزء من السكان وإعادة توطينهم. والأهم أن النجاح في الحالات الثلاث كان مرتبطاً بتحسين ظروف معيشة السكان المهجرين وتوفير مناطق بديلة أفضل من مناطقهم الأصلية، لحرمان المسلحين من استغلال مظلومياتهم.
وهنا لا يمكن تجاهل التهديد الأمني الذي قد تشكله الأنفاق، وأهمية قطع أي إمدادات قد تصل إلى المسلحين عبرها، مهما كانت محدودة. لكن هذا لا يبرر إخلاء منازل الشريط الحدودي بالكامل في مهلة قصيرة جعلت الإجراء يبدو عقاباً جماعياً ورد فعل انتقامياً على هجوم كرم القواديس، خصوصاً أن المهجّرين تركوا تحت رحمة تعقيدات إدارية لمحاولة الحصول على التعويضات.
وإذا كان التهجير فشل في معظم التجارب السابقة، فإن «نهج اسحقوهم» الذي يتردد كثيراً على ألسنة الإعلاميين المقربين من النظام، باعتباره حلاً لما نواجهه في سيناء- كان الأكثر فشلاً من بين 24 استراتيجية درسها مركز راند.
غير أن التجارب السابقة تحمل خبراً جيداً، وهو أن البدايات السيئة لا تؤدي بالضرورة إلى نهايات سيئة، وأن تدارك الأخطاء ممكن، وهذا ما يجب تداركه في سيناء.
الحل في مواجهة «أنصار بيت المقدس» وأخواتها ليس عسكرياً أو أمنياً فقط، رغم أهمية القوة، بل يتطلب استراتيجية شاملة لكسب القلوب والعقول بسياسات تنموية واجتماعية تراعي مظلوميات أهالي سيناء وتحسن أوضاعهم لتحرم الجماعات المسلحة من حاضنة اجتماعية تضاعف خطرها.
تلخص دراسة راند تنوع المهارات المطلوبة في الحرب على الجماعات المسلحة بوصفها حرب المشتغلين بالعلوم الاجتماعية. وبالطبع ليس متوقعاً أن يقبل الجنرالات بإشراك متخصصين مدنيين في رسم خطة المواجهة في سيناء. لكن ربما يفرد أحدهم الخريطة ليرى تجارب من سبقونا، ويحاول استخلاص الدروس منها.
المصدر: المصري اليوم