مصطفى النجار يكتب | اختطاف العقل وتحويل انتباه الجماهير
فى بلد يعانى أهله كل صنوف المعاناة وتتفاقم مشاكله يوما بعد يوم، فى بلد على وشك الإفلاس المائى وخوض حرب للحصول على المياه، فى بلد يتصاعد الصراع السياسى فيه وتنتهك حقوق الانسان وتقترب من أزمات اقتصادية كبرى بالإضافة إلى أزمة الطاقة القادمة ومأساة انقطاع الكهرباء المستمرة، فى بلد يعيش نصف سكانه تحت خط الفقر ويعيش عشرات الملايين منهم فى عشوائيات غير آدمية بعد أن امتلأت المقابر بمن سكنها من الأحياء وليس الأموات، فى بلد بمثل هذه الظروف حين يصبح الخبر الأهم والقضية التى تشغل الرأى العام هو القبض على راقصة بسبب خلافات تخصها مع صاحب عملها وتتحول قضيتها إلى مانشيت أساسى فى كل الصحف وتستضيفها الفضائيات وتتوالى التغطيات الإخبارية حول ما يحدث معها، فى كل هذه الأجواء يجب أن ندرك أن هناك كارثة ومؤامرة تحدث ضد هذا المجتمع ليظل بعيدا عن قضاياه الحقيقية ويظل غارقا فى التفاهة والتغييب.
لم تجف دماء جنود جيشنا الستة الذين قتلتهم يد الارهاب الأسود ولم تتوقف دموع ضحايا مجزرة سيارة ترحيلات أبو زعبل وهم يرون المتهمين فى قتل 37 ضحية يخرجون يبتسمون فى وجوههم ويعاقب شخص واحد فقط بعدد سنوات سجن يمكن أن تخفف لاحقا، ولم يهدأ صوت رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات وهو يتحدث عن وقائع فساد تجاوزت الـ 60 مليار جنيه ويصرخ مطالبا باسترجاع الأموال ومحاسبة السارقين ولا ينتبه أحد أو يهتم فالقضايا الكبرى التى يجب أن يتم تجييش الإعلام لها هى مشاكل الراقصات فى الملاهى الليلية وكيفية بذل كل الجهود من أجل حلها!
•••
يقول المتخصصون فى دراسات الرأى العام إن الجهات التى تسعى لتوجيه الرأى العام وصرفه عن مشاكله الحقيقية فى الدول المتأخرة تمارس استراتيجية (تحويل انتباه الجماهير) من خلال إثارة موضوع ما والحشد الاعلامى له لجعل الرأى العام ينتقل من القضايا التى كان مشغولا بها إلى قضية أخرى تشتت انتباهه فى الاتجاه الذى يريده المتلاعبون بالعقول.
ويقول ناعوم تشومسكى المفكر الأمريكى الشهير ( إن السلطة لا ترضى بغير السيطرة التامة على اتجاهات الجماهير وإذا ضمنت هذه السيطرة عبر التغييب المستمر فلا أهمية للرأى العام الذى تتلاعب به الأنظمة كما تريد فى اتجاه مصالحها وإخفاء فشلها).
ويوضح فى مقالة بعنوان استراتيجيات التحكم والتوجيه المأخوذ عن وثيقة (الأسلحة الصامتة لخوض حرب هادئة) أن من بين هذه الاستراتيجيات:
أولا: إستراتيجية الإلهاء بالتفاهة
عبر إغراق النّاس بوابل متواصل من الاخبار والقضايا التافهة فى مقابل شحّ المعلومات وندرتها وهى استراتيجية ضرورية لمنع العامة من الوصول إلى المعرفة الأساسية كما جاء فى وثيقة الأسلحة الصامتة (حافظوا على اهتمام الرأى العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية اجعلوه مفتونا بمسائل لا أهمية حقيقية لها، أبقوا الجمهور مشغولا، لا وقت لديه للتفكير).
ثانيا: إستراتيجية إغراق الجمهور فى الجهل والغباء والخرافة
لابدّ من إبقاء الجمهور غير قادر على فهم التقنيات والأساليب المستعملة من أجل السيطرة عليه واستعباده بحيث يفقد القدرة على التفكير المنهجى ويتحلى بعشوائية التفكير والحكم على الأشياء وهذا عبر التعليم الذى يجب أن تكون نوعيته السائدة متدنية بحيث تحافظ على الفجوة التى تفصل بين النخبة المتحكمة والعامّة وأن تبقى أسباب الفجوة مجهولة لدى المستويات الأقل.
ثالثا: تحويل مشاعر التمرّد والرغبة فى الغضب إلى إحساس بالذّنب
عبر دفع كلّ فرد فى المجتمع إلى الاعتقاد بأنّه هو المسؤول الوحيد عن تعاسته، وذلك بسبب محدوديّة ذكائه وضعف قدرته أو جهوده وكسله وتقاعسه وهكذا بدلا من أن يثور ويطالب بحقوقه يحطّ الفرد من ذاته ويغرق نفسه فى الشّعور بالذنب، ممّا يخلق لديه حالة اكتئاب تؤثر سلبا على النشاط، ودون نشاط أو فاعليّة لا تتغير المجتمعات ولا تنشأ الثورات.
إذا تأملت هذه الاستراتيجيات وغيرها وأسقطتها على واقعنا فى مصر فستشعر أنها يتم تطبيقها حرفيا على المصريين ومن خلال متابعة لمضمون وسائل الاعلام وكثير من نقاشات مواقع التواصل الاجتماعى ستدرك نجاح هذه الاستراتيجيات بشدة وعمق تأثيرها الذى أصابنا، ويبقى السؤال الأهم عن دورنا فى مواجهة هذا التغييب الذى يضر بلا شك بمصالح الوطن ومستقبله.
•••
إن دور النخب الوطنية أن توجه الجماهير إلى قضاياها الحقيقية ومشاكلها التى تمثل أولوية مع ترتيب هذه الأولويات والتركيز على كيفية مواجهتها بشكل إيجابى وبناء، فتش فى كل مجتمع عن نخبته وإعلامه وارصد اهتماماتهم حتى تعرف إلى أين يمضى هذا المجتمع، المشاركة فى تغييب وعى الجماهير خطيئة لا تغتفر لأنها لا تضر جيلا واحدا بل تدمر أجيالا وأجيالًا، إذا كان الفضاء الإعلامى فى مصر قد تم تأميمه لصالح السلطة وتؤازره وتسابقه وسائل إعلام رءوس أموالها تابعة للثورة المضادة فالمسئولية تتضاعف لدى الأصوات الوطنية المخلصة لقضية الثورة والديمقراطية فى التحرك بكل الوسائل الممكنة لإيقاظ الوعى ومحاربة التجهيل واختطاف العقل الجمعى للمصريين.
•••
تمر كل الشعوب والأمم بفترات مظلمة من تاريخها ينتشر فيها الجهل وتسود العشوائية وينحط الذوق العام وتتدنى الاهتمامات وتختل الأولويات ولا تخرج هذه الشعوب من كبوتها إلا إذا تمسكت قلة واعية بعقلها وأبت الرضوخ ومسايرة الاتجاه العام وناضلت من أجل أن تنير الظلام لتبصر العيون وتسلحت بالعلم والمعرفة والضمير لتنتشل المجتمع مما أصابه.
حين يفيق الناس من سكرتهم ويتمردون على تغييبهم سيعرفون من صدقهم ومن كذبهم ومن عمل لصالحهم ومن أضرهم، اليأس قد يداهمك وأنت تتصدى لطوفان التغييب لكن تذكر أن هذا واجبك تجاه الناس والوطن فلا تمّل.