كتب الصديق خالد عز العرب هذا المقال فى جريدة «الشروق» يوم السبت الماضى. سأقتطع منه جزءًا مهماً لأغراض المساحة.
حتى بعد أن عادت الأسرة الحاكمة القديمة إلى عرش فرنسا مع هزيمة نابليون بونابرت لم يكن واضحاً ما إذا كانت الثورة الفرنسية قد انهزمت تماماً أم لا.
صحيح أن ملوك البوربون (أى الأسرة الحاكمة قبل الثورة) عادوا، وأن الملك الجديد لويس الثامن عشر أصر على اعتبار العام 1814 «العام التاسع عشر» من عهده – ضارباً عرض الحائط بسنوات الثورة التى قضاها هارباً فى المنفى ومعتبراً نفسه الحاكم الشرعى منذ إعدام أخيه ثم وفاة ابن أخيه عام 1795 – لكن مع ذلك لم تكن المسألة محسومة تماماً.
كان يمكن للمتفائلين أن يشيروا إلى حقيقة أن الملك اضطر للقبول بوضع دستور ينظم علاقته برعاياه، وأن الدستور منح صلاحيات لا بأس بها للبرلمان.. لم يتم القضاء على أحلام الحرية تماماً إذن.
لكن الشهور والسنوات التالية كانت تحمل أنباء سيئة لهؤلاء المتفائلين.
الانتخابات التى أجريت فى العام التالى لعودة الملكية أفرزت برلماناً فازت فيه القوى التقليدية بـ350 مقعداً من إجمالى 420 مقعداً. كان هؤلاء أكثر ملكية من الملك، وانصب جهدهم فوراً على إقامة محاكمات عسكرية خاصة، وإقرار قوانين مقيدة للحريات، كما يذكر المؤرخ ديفيد تومسون فى كتابه (أوروبا منذ نابليون).
على مدى السنوات التالية استمر الصراع بشكل أو بآخر بين القوى المحافظة والقوى الساعية للتغيير… الملك نفسه كان وسطيًّا إلى حد ما – خوفاً ربما من أن يلقى مصير أخيه على المقصلة – لكن عندما توفى عام 1824 خلفه على العرش أخوه الأصغر تشارلز العاشر، والذى كان صقراً من صقور المحافظين.
لم يعد هناك مجال للتفاؤل، فالآن وبعد 35 عاماً من اندلاع الثورة، أحكم النظام القديم – متمثلاً فى العائلة المالكة والإقطاعيين ورجال الدين – سيطرته على مقاليد الدولة فى القصر والبرلمان والكنيسة والجهاز البيروقراطى.
لو أن أحدهم رفع شعار «الثورة مستمرة» أو «اليأس خيانة» فى تلك الأيام، لسخر منه الناس أو أشبعوه ضرباً.
مع وصول تشارلز العاشر إلى عرش فرنسا كانت الثورة قد انهزمت تماماً واستتب الأمر بشكل كامل للنظام القديم… أو هكذا بدا.
فهل كان يتصور أحدهم أنه بعد ذلك بست سنوات فقط ستقوم ثورة جديدة تطيح بالملك؟
والأدهى… هل كان يتصور أحدهم أن مثل هذه الثورة وبعد أن تنجح فى الإطاحة بالملك، لن تتمخض إلا عن تولى أمير آخر (هو قريب وصديق للملك السابق) عرش البلاد؟
ثم تقوم ثورة أخرى ضده عام 1848 وتعلن قيام الجمهورية الثانية، لكن سرعان ما ينقلب عليها الرئيس المنتخب لينصب نفسه إمبراطوراً.
وهكذا يعجز المرؤ فى العثور على لحظة فارقة يستطيع أن يقف عندها فيقول: إن الثورة الفرنسية انتصرت انتصاراً مبيناً أو انهزمت هزيمة كاملة.
على عكس الأعمال الدرامية، لا تنتهى الصراعات السياسية عادة بانتصار كاسح أو هزيمة نكراء يسدل من بعدها الستار… الانتصار والهزيمة أمران نسبيان يتعلقان بقدرة كل طرف على تحسين شروط الصراع لصالحه على المدى الطويل.
من العبث أن تأمل فى الفوز بالضربة القاضية، أو أن تخشى الهزيمة بها.
لن تظهر لك على الشاشة عبارة Game Over، ولن تُمنَح خيار Restart… اللعبة مستمرة طالما أنت مستمر فى اللعب.
لسنا حالة فريدة من نوعها، وكما حدث مع غيرنا، فإن الصراع سيدوم بقدر ما لدى أطرافه من رغبة فى الاستمرار، وبقدر ما تتمتع بنفس طويل.
انتهى المقال، ولم تنته أسباب التمرد لأن أحداً لا يأخذ المتمردين بجدية، وهذا ما يجعل الثورات موجات: صعود وهبوط، قوة وضعف، انتصار واندحار، إلى أن يصل المجتمع إلى نقطة توازن. أظن أننا لم نزل بعيدين عنها.