معتز بالله عبد الفتاح يكتب | فلنكفّ أذانا عن مصر
مصر مثل المركب المتهالك المصنوع من المطاط الذى يبحر فيه أضعاف ما يستطيع أن يتحمل. وهناك بيننا دائماً من لا يرضى ولا يقبل وضعه سواء السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى ولم يجد طريقة للتعبير عن عدم رضاه أو قبوله بالوضع القائم إلا بأن يبحث عن سكّينة أو مطواة أو حتى مسمار كى يحدث خرقاً فى هذا المركب المتهالك. وكلما أقدم أحد الركاب على ذلك، جرى نحوه الآخرون إما لمنعه أو لإلقائه من المركب حتى لا يغرقه على ما فيه من عيوب.
أزعم أن مصر لم تعرف نمط المعارضة السياسية الناضجة ولا نمط «الحكم الرشيد» وإنما كانت هناك حالة من «النضال السياسى» ضد من يملك الأطر الرسمية للسلطة ممن يريدون الاستشهاد أو الموت من أجل قضيتهم بمنطق «علىَّ وعلى أعدائى»، ومن يصل إلى السلطة يناضل كذلك من أجل منع الطرف الآخر من الوصول إليها.
والخناقة على هذه «السلطة» هى خناقة على قيادة مركب بصدد الغرق. العاقل هو من يسعى لإنقاذه حباً فى أهله وسعياً من أجل صالحهم، أما من غلبت عليه شقوته فلن يهتم بإنقاذه وإنما سيهتم بمكانه فيه.
قصة السيدتين اللتين ذهبتا إلى سيدنا سليمان تتنازعان على أمومة طفل، وتقدم كل منهما حُجتها حتى حكم النبى الحكيم بأن يتم تمزيق الطفل إلى نصفين، وتأخذ كل منهما نصفاً، لكن الأم الحقيقية أعلنت رفضها أن يتم تمزيق الطفل لأنها تريد له الحياة حتى لو كان سيحيا بعيداً عنها.
من يحب هذا البلد فعلاً فلن يهتم بأى مكان له فى تركيبة السلطة القائمة وسيسعى بعقلانية لمنع الدماء التى تسيل يومياً وسيتجنب غرقه حتى وإن لم يكن فى مقعد القيادة.
خاطبت مسئولين كباراً فى الرئاسة وفى الجيش وفى الحكومة وفى وزارة الداخلية بشأن الدماء التى تسيل وبشأن المقبوض عليهم دون أن نعرف ما حقيقة جنايتهم، ولم أسمع ما يطمئننى. ومع كل مرة يحاول فيها كاتب هذه السطور توضيح مخاطر استمرار الدم والتعذيب والإهانة والظلم، يكون الرد ليس من رجال مؤسسات الدولة، ولكن من عملية إرهابية هنا أو محاولة لقطع طريق هناك بما يقوى جناح التشدد فى مؤسسات الدولة بل وفى المجتمع؛ حتى فقد الإنسان رغبته فى مناشدة أحد من أجل إنقاذ المركب وعدم تمزيق الطفل، وكأننا قررنا أن ننتحر.
أعلم أن هناك من يريد التغيير والإصلاح والديمقراطية، وهو ما لا أرى نفسى بعيداً عنه، ولكننى إنسان واقعى، موازين القوى جزء من حساباتى، والأهم أن النتائج غير المقصودة لقراراتى هى جزء من معضلة أى قرار: مضموناً وتوقيتاً.
فى هذه اللحظة الاستثنائية من عمر الوطن لا بد أن تكون الأولويات واضحة، وألا نضيع الممكن المعقول فى سبيل الأمثل المستحيل مثلما أضعنا عشرات الفرص طوال السنوات الثلاث الماضية دون أن نفكر فى كيفية إدارة دولة مثل مصر تعانى من فساد الكثير من مؤسساتها، وتراجع إنتاجية عمالها وتواضع كفاءة خريجيها من التعليم، وتشرذم نخبتها وفشلها فى كل شىء إلا نَقْل أمراضها لشبابها. لا أقول للقارئ الكريم، توقف عن التفكير واتبعنى أو اتبع أى أحد. كل ما أقوله تعالوا نحاول معاً أن نفكر بشكل عملى.
إن كنت متديناً، فكِّر بمنطق «خالد» حين انسحب بالجيش من «مؤتة» بعدما تأكد من هَلَكَة القوم.
إن كنت ماركسياً، فكِّر بمنطق «جرامشى» حين تحدث عن الحاجة لشن حربى المناورة والمواقع معاً (أى اضغط واكسب أرضاً)، وليس أن تظل حياتك كلها فى الشارع تطالب بإسقاط كل الأنظمة.
إن كنت ليبرالياً، فكِّر بمنطق «توماس جرين» حين تخلص من النظرة المثالية لليبرالية، ووضع لها إطاراً قانونياً يجعلها نظرية فى الحكم وليس نظرية فى كتب الفلسفة.
إن كنت براجماتياً ولا تهتم بالنظريات، اعرف أن مصر بحاجة لخمسين ألف مدرسة، لو كل مدرسة تتكلف عشرة ملايين جنيه، فنحن بحاجة لخمسمائة مليار جنيه يعنى تقريباً نصف ميزانية الحكومة، وهذا مستحيل إلا بمعجزة يصنعها الشعب المصرى نفسه.
قال لى أحدهم: «أنت ثورى بطريقتك»، قلت: شرف لا أدعيه، ولكن ما أدعيه أن مصر بحاجة لثورة لا يقودها مراهقون يرهقون أنفسهم والناس بلا طائل.