معتز بالله عبد الفتاح يكتب | من «باندا» إلى «السيسى»
استمعت إلى حديث المشير السيسى عن أهمية أن يضحى جيل من المصريين من أجل الآخرين، وأن يتبرع بعضنا من أجل مستقبل أفضل لمصر، وأن يتقشف بعضنا من أجل الآخرين الأكثر احتياجاً.
تذكرت كلاماً منسوباً لجويس باندا (JOYCE BANDA)، رئيسة مالاوى يحمل نفس المضمون. بل هى حقيقة نفذته حين وصلت إلى السلطة فى 2014 وضربت مثلاً بنفسها، حين خفضت راتبها، وراتب نائب رئيس الجمهورية بنسبة 30 بالمائة، بل حين باعت أسطول السيارات التابع للرئاسة، كما باعت الطائرة الرئاسية، وقالت: «إن الركوب مع آخرين والتعرف عليهم فى الطائرة مسألة مفيدة، وفى كل الأحوال، كل الطائرات تصل إلى كل البلاد، بغض النظر عن كونها طائرة رئاسية أو تجارية».
ولكنها كانت واضحة من البداية، وهو أن كل هذه الإجراءات التقشفية، لن تكون كافية لإنقاذ مالاوى مما تعانيه من فقر مدقع. لذا فعلت كل ما استطاعت من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من المنح والمساعدات من الاتحاد الأوروبى ومن هيئات التمويل الدولية والأفريقية. فعلت كل ما استطاعت بشهادة الكثيرين، لدرجة أنها حين وجدت نفسها فى مرمى نيران بعض أباطرة الفساد فى بلادها، أعلنت أنها مستعدة لأن تضحى بالانتخابات القادمة، مقابل أن تقضى على الفساد فى بلادها.
وحين شاع عن عدد من وزرائها تهم الفساد، وبدت التحقيقات الأولوية تشير إلى صحة هذه الشائعات، قامت بإقالة الحكومة ودخلت فى معركة سياسية مع بعض قيادات حزبها، بما جعلها تبدو وحيدة أمام من يهاجمونها من الأحزاب المنافسة.
أروى كل ما سبق للتأكيد على عدة نقاط:
أولاً، إجراءات التقشف لها دلالة «شعبوية» جيدة، لأنها ترسل رسالة لقطاعات من الجماهير بأن القائم على شئون الدولة لا يريد استغلال منصبه، وأنه يشعر بمعاناة الجماهير، لكنها مسألة قصيرة المدى؛ فبعد أيام أو أسابيع قليلة سيعود الناس للمطالبة بما يعتبرونه حقوقهم المشروعة بغض النظر عن التفاصيل الأخرى.
ثانياً، إجراءات التقشف، من ناحية أخرى، يمكن أن تكون كارثية، أو على الأقل ذات جدوى سياسية، وليست ذات جدوى اقتصادية، والمثال هناك من أورجواى، حين كاد يبيع خوسيه موخيكا، رئيس أوروجواى، أسطول السيارات المملوك للدولة وعدداً من الاستراحات المملوكة للرئاسة، ولكن تبين أن عائد الدولة من كل هذه المبيعات أقل من تكلفة تأجيرها لاستضافة اجتماعات وزراء ورؤساء الدول الأعضاء فى منظمة دول أمريكا الجنوبية من الحين للآخر، وبالتالى، هذا القرار سيكون سياسياً جيدا، لكنه، اقتصادياً، غير مجدٍ.
ثالثاً، لنجاح فكرة التقشف والتضحية من أجل المستقبل، فلا بد من أن يكون «البيان على المعلم»، كما يقولون فى الجيش. لا بد أن تكون نقطة البداية من رئيس الجمهورية نفسه ومن المحيطين به، لأن هؤلاء هم القدوة فى هذا المقام. ورغماً عن أن جويس باندا، أعطت المثل بنفسها ونائبها لكن معظم الوزراء وأعضاء حزبها لم يفعلوا بالمثل، بل العكس هو الصحيح؛ فقد حامت حولهم شبهات استغلال النفوذ، فبدا الأمر، وكأنها تنفخ فى قربة مقطوعة.
رابعاً، مهما كان من تقشف وتضحية فى مصر، فالأهم هو وجود تمويل ضخم يأتى من الخارج، ويكون بعيداً عن البيروقراطية المصرية التقليدية القادرة على «تطفيش» أى مستثمر أجنبى. ولهذا كتبت فى هذا العمود من قبل أن مصر بحاجة لأربعين مليار دولار كل سنة لمدة أربع سنوات بإجمالى 160 مليار دولار حتى تقف على قدميها مرة أخرى وتستطيع أن تعيد الاستقرار للمنطقة ضد من يريدون بها شراً من الداخل والخارج، ومن يحكم مصر وهو غير قادر على تأمين هذا التمويل الخارجى سواء فى شكل منح أو قروض ميسرة أو مشروعات بنظام التشييد والتشغيل ونقل الملكية (B.O.T)، فسيجد صعوبات كبيرة تحول دونه ودون ازدهار وحتى استقرار الأحوال.
خامساً، أول مسئولية تقع على الإنسان المصرى هو أن يتحسب لقضية الإنجاب بلا حساب التى نعيشها والتى تجعلنا نتزايد عدداً ونقل قيمة، وقدرة فى أعيننا وعند الآخرين.